كرة القدم في قصيدة الشّاعر أحمد صافي النّجفي

2023-03-26 11:31
متعة كبيرة يجدها مشجعو كرة القدم في لعبتهم المُفضلة (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

ساحرة كانت -وما زالت- كرةُ القدم، ولم يقتصر سحرها على المشجّعين في المدرّجات والمتابعين من خلف الشّاشات فحسب؛ بل سحرت الشّعراء والأدباء أيضاً، فكانت تسبحُ في بحور الشّعر وتزدهي، تماماً كما تتردد الهتافات الحماسية بين حناجر المشجعين الصادحة في المباريات الساخنة والصّاخبة.

ويعدّ الشّاعر أحمد صافي النّجفي في قصيدته "لعبُ الكُرَات"؛ من الشّعراء الذين صاغوا سحر كرة القدم في نظم شعريٍّ بديعٍ.

فمن هو هذا الشّاعر الذي عُنِي بكرة القدم حتّى أعطاها من نفسه وقلمه ومعانيه، وألبسها حلّة شعرية تخلّدها وتحتفي بها؟

قبلَ أن نقف مع هذه القصيدة الجميلة دعوني أعرّفكم بإيجاز على شاعرنا الفذّ؛ فقد ولد الشّاعر أحمد الصافي النجفي في العراق وتحديداً في مدينة النجف عام 1897م، عاش يتيماً، إذ توفي والده بوباء الكوليرا الذي انتشر في العالم بتلك الفترة عندما بلغ من العمر أحد عشر عاماً؛ فكفله أخوه الأكبر محمد رضا، وعندما بلغ سنّ الخامسة عشرة توفيت والدته فتجرّع مرارة اليتم مرَّةً أخرى.

بدأ كتابة الشّعر وهو في العشرين من العمر، وتنقّل بين الكويت وإيران وسوريا، وكان في لبنان إبان الحرب الأهليّة، وقد أسفرَ وجوده في لبنان عن إصابته برصاصة أطلقها عليه قناص في منتصف يناير/ كانون الثاني 1976م في بيروت، وهو يبحث عن رغيف خبز يأكله بعد أن أمضى ثلاثة أيام لم يذق فيها أيّ نوع من الطعام، فحمله بعض المارّة إلى مستشفى المقاصد، ولم تطل إقامته في المستشفى، بل في بيروت كلّها؛ لصعوبة الوضع القائم آنذاك، فنقله بعض معارفه إلى بغداد، فدخلها أعمى قد كُفّ بصره ومشلولاً مقعداً لا يستطيع الحراك، فلما وصل بغداد أنشدَ بيتاً شعرياً يتدفّق وجعاً وحرقة؛ إذ قال:

يَا عَودَةً لِلدَّارِ مَا أَقسَاهَا 
أَسمَعُ بَغدَادَ وَلَا أَرَاهَا

وفي ذلك الوقت كانت إحدى الرّصاصات التي اخترقت صدره ما تزال مستقرّةً فيه، فأُجرِيت له عمليّةٌ جراحيّةٌ لاستخراجها، فقال:

بَينَ الرَّصَاصِ نَفَدّتُ ضِمنَ مَعَاركٍ
فَبِرَغمِ أَنفِ المَوتِ هَا أَنَا سَالِمُ 
    
وَلَهَا ثُقُوبٌ فِي جِدارِي خَمسَةٌ
قَد أَخْطَأَتْ جِسمِي وهُنّ عَلَائِمُ

وبعد أن أُجريت له العمليّةُ ازدادَ جسده نحولاً وضعفاً، فأسلم الرّوح بعد أيام عدة لبارئها في السّابع والعشرين من شهر يونيو "حزيران" سنة 1977م، وكان حينذاك في الثّمانين من عمره، وقد ترك شعراً ثَرّاً خصيباً، ولو لم يكن له سوى ترجمته الخالدة الدّقيقة لرباعيات الخيام لكفاه ذلك فخراً وشرفاً.

إلى قصيدة "لَعِبُ الكُرَات"...

في وقتٍ مبكّرٍ من القرن الماضي، حين كانت كرة القدم تسيرُ رويداً رويداً إلى الأوج الذي بلغته اليوم؛ كان شاعرُنا أحمد صافي النّجفي يرقبُ الجماهير المتحمّسة في الملاعب المتعلّقة بكرة القدم، وقد كان -بطبيعة الحال- واحداً منهم؛ فانبثقت قريحته بقصيدته البديعة التي سَمّاها "لَعبُ الكُرات"، وقد افتتحها بالحديث عن لذّة هذه اللعبة السّاحرة؛ فقال:

لَعِـبُ الكُـرَاتِ يَـلذُّ كَـالدُّنيَا لنَا
فـِــيـــهِ كَــتِــلكَ تـَـنَــازُعٌ ولحَــامُ

يريد في هذا البيت أن يقول: إنّ كرة القدم تُعدّ عَالَماً بأكمله، فهي كالدّنيا التي نعيشُها بما فيها من لذائذ ومُتَع، فيُشبّه الشاعر ما يلقاه المرء في حقيقة دنياه من متع متمثلة بالمال والبنين والذّهب والفضّة والأنعام والحرث؛ بما في كرة القدم من سعادة وحبور، وكأنّ كرة القدم هي اللّذة الكبرى.

لكنّه حين يشبه لعبة كرة القدم بما فيها من لذة بمتاع الدنيا لا يغفل عن الجانب المظلم من الدنيا، وما فيها من صراعات ونزاعات للكسب والتحصيل والمنافسة وإحراز التقدّم، ففي لعبة كرة القدم إلى جانب اللّذة والمتعة ما في الدّنيا من تنازع بين أفرادها، والتحام بين أبنائها، وكأنّهم في معركةٍ حامية الوطيس؛ غير أنّ الفرق بين الدنيا التي يعيشها الخلق ودنيانا المتمثلة في كرة القدم أنّ الخصومات والنزاعات والاشتباكات في الدّنيا تفضي إلى القطيعة والتهاجر والتّدابر، وقد تفضي إلى الضرب والتشاجُر، غير أنّ التّنازع في دنيا كرة القدم يُعدّ قرين المتعة فيها واللّذة المتحصّلة منها؛ فهو دافعٌ إلى التنافس الذي يضفي على اللذة رونقاً إضافيّاً، وهو تنازع والتحام عليه رداءٌ من الروح الرياضيّة العالية التي تلتحم فيها قلوب اللاعبين مع بعضها قبل أن تلتحم أبدانهم في التنافس على حيازة الكرة وتسديد الأهداف وتحقيقها.

بهذا الاستهلال البارع افتتح الشاعر أحمد صافي النجفي قصيدته ليدخل بنا إلى أجواء الملاعب الحماسيّة، وينقلنا إلى تنافس اللاعبين المحموم لأجل الكرة السّاحرة؛ وسنُبحِرُ معه في أمواج هذه القصيدة البديعة -بإذن الله تعالى- في المقال القادم.

شارك: