هل سمعت بقولهم: اللغةُ رياضة؟

تحديثات مباشرة
Off
2023-12-27 16:25
أرشيفية- رياضة ألعاب القوى تحتاج إلى جهد بدني كبير وتمارين خاصة للتمرس فيها (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

من مشهور القول في مَتن منظومة الجَزَرِيّة التي نَظَمها الإمام شمس الدّين محمد بن الجَزَري؛ أنّه قال:
وَلَـيْـسَ بَـيْـنَـهُ وَبَـيْـنَ تَـرْكِـهِ *** إِلاَّ رِيَـاضَــةُ امْـــرِئٍ بِـفَـكِّــهِ

وقد صاغ الإمامُ علمَ التَّجويد ونَظمَه بقالب القصيدة الشعرية، بهدف تقديمه في إطار لغوي سَلسٍ قريب المأخذ، فيسهل حفظه على الراغبين بإتقانه ويثبت في أذهانهم. غير أنَّ هذا السَّطر الشِّعري من متن الجزريّة انتشر بين النَّاس والمعلِّمين والمتعلّمين كالبيت الشعريّ الشارد أو المَثل السَّائر، فصار محلَّ استشهاد في سياق تعليم اللُّغات، فاللُّغة في طبيعتها كما يقول ابن جنّي إذ يعرِّفها: أصواتٌ يُعبِّر کلُّ قومٍ بها عن أغراضهم.

ويذهب ابن خلدون إلى أنّ جميع اللّغات تعدُّ مَلَكاتٍ تقوم على الصّناعة وتُشبهها، بمعنى أنّ اللغة تُتعلّم وتُتقنُ كما يُتعلم صناعة شيء ما ويتقن، والمَلكَة أو المهارة لديه تعدُّ صفة ثابتة راسخة في الإنسان، وتكتسبُ بوساطة التَعلُّم والممارسة والتّكرار، سواء أكان الأمر مرتبطًا باللغة أم بغيرها من الصناعات المختلفة، وقد عبّر عن هذا المعنى بقوله: "والمَلَكاتُ لا تحصلُ إلا بتكرار الأفعال؛ لأنّ الفعل يقعُ أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالًا، ومعنى الحال أنّها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون مَلكة أيّ صفة راسخة".

ومغزى القول الذي أرمي إليه هو أنَّ اللّغة نظيرة الرياضة ومَثيلتها، فكِلتاهُما تقومان على تمرين العضلات، وتكرار الفعل واعتياد ممارسته حتى يصبح عادة وروتيناً دائماً يعتمده البَدَنُ بدون وعي وبدون أدنى تفكير، فهو حاجةٌ وأداة في الوقت نفسه، وهذا ما قصده الجَزَريّ بقوله: "رِيَـاضَــةُ امْـــرِئٍ بِـفَـكِّــهِ"؛ فاللُّغة ممارسة مستمرّة وتعويد لعضلات الفكِّ على النطق بالأحرف نطقاً صحيحاً سليماً مع تحقيق المخارج وإعطائها حقّها، وذلك لا يتأتّى للمرء بدون تدريب وتمرين، حتى تصبح عضلات الفكّ مِطواعة لَيِّنة، تنساب منها الحروف بدون أدنى جهد.

والنطق في هذه النقطة بالتحديد يلتقي مع عِماد مفهوم الرياضة التي نعرفها وأساسها، فإتقانُ أي رياضة بدنية اليوم يحتاج إلى كثيرٍ من التدريب والتمرين، والممارسة المنتظمة، واعتماد برنامج حقيقيّ يصل بصاحبه في نهاية المطاف إلى إتقان ما يرنو إليه ويهدف ويتطلّع إلى إتقانه من حركات رياضية معيّنة، أو إتقان لعبة رياضيّة محدَّدة.

إنَّ تعلّم أي لغة جديدة يتطلّب اتّخاذ منهج محدَّد؛ إذ تعتمد بعض برامج تعليم اللغة على إبقاء الراغبين بالتعلّم مُعرَّضين لسماع اللّغة التي يريدون تعلّمها، ثم دفعهم نحو استعمال ما تحصَّل لديهم من خزينة لغوية نتيجة الاستماع، وذلك بوضعهم في مواقف مفتعلة يضطرون فيها إلى استجلاب ما في أذهانهم من ألفاظ وتعابير تُعِينهم على التعبير عمّا يريدونه. والأمر نفسه ينسحب على برامج الرّياضة، فمن يريد إتقان لعبة رياضية ما؛ عليه أن يبقى قريباً من ساحاتها، بل أن يخوض غمارها، ويبقى معرَّضاً لكل ما يخصُّها من تمارين وآليات، وأن يبقى على اطّلاع دائم بأحداثها الراهنة وأخبار لاعبيها، كما ينبغي له أن يكون مطّلعاً على ما في ماضيها من تقنيات أو أحداث تعينه على الشعور بالإحاطة التامّة بها.

فهل يمكن لأيِّ امرئٍ اليوم أن يتقن لعبة كرة السّلّة بدون تمرين وتدريب مكثّف؟ وهل رأيت متقناً للعبةٍ رياضية لم يترك التمرينُ آثاره في عضلاته وجسده؟ بالطبع لا!

والأمر نفسه إذا ما تحدثنا عن اللغة، فانظر إلى أولئك الذين يتعلمون اللغة العربية -على سبيل المثال- من غير الناطقين بها، لا بدّ أن تلاحظ أن العربية تترك آثارها في مخارج حروفهم وأساليب لفظهم، سواء لحروف العربية أو حروف أي لغة أخرى يتقنونها، فعضلات الفكّ تتشكل وتتطوّع بمرونة وسلاسة مع كثرة التدريب والتجريب، لتصبح ليّنة مطواعة لصاحبها يحرّكها كيفما يشاء ليصدر الحرف والصوت الذي يشاء، على أن يكون ذلك بلطف وسلاسة وبدون تعقيد وتكلّف كما وصفه ابن الجزريّ في قوله:

وَهُـوَ إِعْـطَـاءُ الْـحُـرُوفِ حَقَّـهَـا *** مِــنْ كل صِـفَـةٍ وَمُستَحَـقَّـهَـا
مُكَمّـلاً مِـنْ غَـيْـرِ مَــا تَكَـلُّـفِ *** بِاللُّطْـفِ فِـي النُّطْـقِ بِــلاَ تَعَـسُّـفِ

شارك: