نجيب محفوظ.. حتى جائزة "نوبل" لعبت كرة القدم!

2023-01-14 15:02
مباراة المغرب والبرتغال في المونديال أقيمت في نفس يوم حفل توزيع جوائز نوبل (Getty)
وسام كنعان
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

رغم جرعات السحر المنكّهة باللهفة، التي حوّطت يوميات جمهور كرّة القدم حول العالم خلال مونديال قطر، إلا أن بعض الأصوات المتخاصمة بطبيعتها مع ملامح الفرح أرادت بتأهّبها المطلق بذل كل ما تملكه من أجل محاولة التشويش على سعادة الجمهور! وذلك من خلال ذرائع واهية تدّعي زورًا بأن مشاهدة كرة القدم ليست سوى تبديد للوقت والمال دون طائل!

طبعًا لا يفيد الشرح لممثل سوري مثلاً -أمضى حياته عاجزًا عن صناعة لحظة دهشة واحدة لمشاهديه بسبب أدائه الباهت- بأن ملعب كرة القدم هو المسرح الأوّل الذي تستقي منه الدراما لحظات شعورية نقية وعفوية، ومطلق الصراع الأبيض، القائم بدون أيّ بروفات مكتملة! لكن ربما يكون من المفيد والمجدي بذل الجهد أمام من اشتكى عزوفَ غالبية مشاهدي العالم عن حضور البث المباشر لحفل توزيع جوائز «نوبل» والتي جرت تزامنًا مع المونديال القطري، لصالح متابعة مباريات كرة القدم، وتحديدًا مباراة المغرب والبرتغال التي جرى يومها حفل «نوبل» الأخير!

فما يجهله هؤلاء بأنه حتى الحائزون على جوائز «نوبل» تاريخيًا سبق لبعضهم أن لعبوا كرّة القدّم، وتأثّروا بها، وحكوا مطوّلاً عن استلهامهم منها، لدرجة أن منهم من تمنّى علانية لو أتاح له القدر بأن يكون لاعبَ كرةٍ محترفًا، بدلاً من انهماكه في مهن الأدب والفن عمومًا!

هكذا، سبق أن اختارت جريدة «نيويورك تايمز» أحد عشر لاعبًا يمثّلون أشهر شخصيات الإبداع في العالم، كان من بينهم ثلاثة قد حصلوا على جائزة «نوبل للآداب». الأول هو الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف، ليلعب في حراسة مرمى الفريق، وذلك لوقوفه في هذا المكان في  صباه، أما الثاني فهو الكاتب التركي الشهير أورهان باموك الحاصل على «نوبل» أيضًا، وذلك ليلعب في مركز الظهير الأيسر، في حين ذهب مركز قلب الدفاع إلى الأديب المصري المرجعي نجيب محفوظ، الذي ربما لا يعرف غالبية قرائه بأنه كان لاعبًا ماهرًا، يجيد المراوغة، ويتمتّع بسرعة فائقة، فالصورة النمطية التي كرّسها بعض المثقفين تشي بأنه من غير الممكن اهتمام الروائي والكاتب والفنان بكرة القدم، على عكس ما كان سائدًا عند أسماء مكرّسة، حفرت أسماءها بالذهب الخالص في الوجدان الجمعي للجمهور!

خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي كان لأوّل عربي حاز على جائزة «نوبل» صولات وجولات في ملاعب كرة القدم، وتحديدًا في حيّ العباسية، واحترف اللعبة إلى أن اعتزلها بملء إرادته مطلع دراسته الجامعية!

الحالة التي رسّخها كاتب «بين القصرين» جعلته محطّ اهتمام نقّاد العالم، وشكّلت تجربته جوهر دراسات طلّاب الجامعات الأوربية، بينما ظلّت كرة القدم واحدة من المداميك الأساسية التي جرى الاهتمام بها كجزء مفصلي في حياته، وقد صدرت دراسة بحثية بخصوص ذلك بعنوان «الأدباء أيضًا يمكنهم اللعب» ليس ذلك فحسب، بل ذهبت الأمور إلى أبعد من ذلك عندما أكّد نقّاد عدّة ومعاصرون قريبون من صاحب «خان الخليلي» بأنّه استمّد قيمًا إبداعية مضافة، بذريعة إجادته للمهارات الكروية، وذلك بحسب الكاتب المصري أشرف عبد الشافي، والناقد والبروفيسور المصري البريطاني محمد بدوي، الذي شرح ذلك مرّة بالقول: "كان نجيب محفوظ في مراهقته لاعبَ كرةِ قدم مشهورًا بالمراوغة والحيلة والسرعة، ثم قرر في لحظة ما أن يهب نفسه للكتابة، ليواصل اللعب بمهارة وخفة وحكمة أيضًا".

عن قصّته مع كرة القدم روى نجيب محفوظ بأنه أيام دراسته الثانوية لم يكن يجيد اللعب بالقدم اليسرى، ومع ذلك فقد لعب في مركز الجناح الأيسر، ما قلل من فرصته في التحرّك المريح، ومع ذلك كان هدّاف فريقه، وقد تغيّر المركز ليصبح قلب دفاع، ما جعل المراقبون حينها يتنبؤون له بمستقبل باهر في المستطيلات الخضراء، ويصابون بالصدمة البالغة حين قرر اعتزالها نهائيًا، قبل أن يقطف الوهج والشهرة اللازمتين كلاعب، دون استشرافهم ولو للحظة آنذاك بأنه سيطوّع براعته وموهبته لينجز في عالم الأدب، ويصبح أوّل كاتب عربي يحصد نوبل!

والملفت بأن الرجل تعلّق بالكرة بطريقة دراماتيكية بسبب لاعب، وهجرها نهائيًا بسببه أيضًا، وقال حرفياً: "قد لا يصدِّق أحد أنني كنت في يوم من الأيام «كابتن» في كرة القدم، واستمر عشقي لها حوالي عشر سنوات متصلة، أثناء دراستي بالمرحلتين الابتدائية والثانوية، ولم يأخذني منها سوى الأدب. ولو كنت داومت على ممارستها فربما أصبحت من نجومها البارزين".

أما كيف شغفته كرة القدم فلها قصّة مثيرة، تتلخص بدعوة غداء من صديق أخيه، وكان من عائلة الديواني المرموقة التي تسكن في حيّ يطلّ على محطة قطار، ما إن تناولوا الغداء حتى أضاف صديقهم لدعوته فاكهة الجلسة، التي تمثّلت بمشاهدة حيّة لمباراة بين الفريق المصري والفريق الإنجليزي، حينها ربح المصريون، وهدمت في قلب الطفل نظرية أن البريطانيين لا يُقهرون في شيء! لفته حينها حسين حجازي، كابتن فريق مصر آنذاك، الذي لعب أولمبياد عام 1928، وحقق مع فريقه المركز الرابع، وكان له حضور أوربي حكى عنه محفوظ لاحقًا. خاصة أن هذين اللاعبين سَبَبَ تعلّق محفوظ باللعبة الأكثر جماهيرية في العالم، ومن أجلها هجرها حتى على مستوى المشاهدة، حين اعتزال حجازي، وهو في الأربعينات من عمره!

المهم عاد الصبي الصغير من المشوار، وفي ذهنه أسماء لاعبي بلاده وحركاتهم وروحهم القتالية، وكان أوّل ما طلبه من أبيه أن يشتري له كرة، وراح يتدرّب عليها في فناء بيتهم، ويجرّب تقليد ما شاهده لأوّل مرّة في حياته، ومن ثم انضم لفريق المدرسة، ودأب على اللعب أساسيًا حتى السنوات الأولى من الجامعة, حتى شخصيات الفتوّة التي درّجها في رواياته الشعبية استمدّ جزءًا منها من لاعب مصري شهير آنذاك اسمه علي الحسني، الذي كان يستشرّ في الدفاع، ويرفع مع حارسه شعار «اللي يفوت يموت» الرجل ذاته أتى على ذكره صراحة في رواية «المرايا» (صدرت عام 1971) فأتاه حينها صوته على الهاتف منهكًا مريضًا ضعيفًا، يشكره ويشكو ظرفه، بعدما ذاع صيت العمل الروائي، وبلغت شهرة صاحبه أصقاع الأرض! 

شارك: