"كرة القدم" مَعشوقةُ الجماهير في قصيدة النّجفي

2023-04-02 11:09
صورة لكرة القدم في شباك المرمى (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

نُكمل رحلتنا في الميدان الذي اجتمعت فيه أَواصِرُ الشعر والرياضة، فبعدَ أن استهلّ الشاعر أحمد صادق النّجفي قصيدته "لعب الكرات" بتشبيه لعبة كرة القدم بالدّنيا؛ بما فيها من لذّة وما فيها من تنازع والتحام في قوله:

لَعِـبُ الكُـرَاتِ يَـلذُّ كـَالدُّنيا لنَا
فـِــيـــهِ كـَـتِــلكَ تـَـنَــازعٌ ولحَــامُ

انتقل إلى وصفِ الكرة فشبّهها بالطّائر الذي يحلّق عاليًا؛ إذ قال:

كُـرَةٌ تـَطِـيـرُ بِلَا جَناحٍ في الهَوَا
فـَـتـَطـِيـرُ تـابـِعـةً لهَـا الأحـلَامُ

تبدو كرة القدم كما يراها شاعرنا طائرًا محلّقًا في الأجواء، لكنّه طائرٌ يرتفع في أعالي السّماء بغير أجنحة، فالكرةُ إذن أشبه بطائرٍ لا توجّهه أيٌّ من الأجنحة الباسطة أو القابضة، بل توجّهه الأقدام الثّائرة، والقلوب المتوثّبة، وهذا ما يُميّزُ الكرةَ عن سِواها ممّا يمكن له أن يُحلّق أو يرتفع! 

وكلما طارت الكرة في فضاءات الملعب طارت وراءها الأحلام؛ أحلام اللّاعبين والمشجّعين ورغباتهم وطموحاتهم بالفوز والاحتفال بالنّصر، كما تأتي "الأحلام" هنا أيضًا بمعنى العقول والقلوب؛ فعقول المشجّعين واللّاعبين معلّقة بالكرة؛ تطير معها حيثما طارت، وتطيشُ بها كلّما طاشت.

ثمّ ينتقلُ الشاعر في حديثه عن كرة القدم إلى مستوى جديد وتشبيهات أكثر كثافة؛ فيقول:

تَأبَى التَّوَسُّطَ مَا لَها إلَّا السَّما
أو تــَحـتَ أَقـدَامِ الكُـمـاةِ مـقَـامُ

وهنا يشبّه الشاعر كرة القدم بالإنسان الممتلئ عزّةً وكرامةً؛ بالإنسان الذي يأبى حال التوسّط، ولا يقبلُ إلّا أن يكون صاحبَ الصّدر والصّدارة في العالمين، أو يكون له القبرُ في الآخِرين.

ويذكّرنا هذا التشبيه بما جاء في أشعار الشّاعر الفذّ أبي فراس الحمداني، إذ قال في إحدى قصائده:

وَنَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِندَنا
لَنا الصَّدرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبرُ

تَهونُ عَلَينا في المَعالي نُفوسُنا
وَمَن خَطَبَ الحَسناءَ لَم يُغلِها المَهرُ

يبدو أنّ الكرةُ تشبهنا -نحنُ العربَ- في رفض التوسّط، فهي إمّا أن تحظى بالصدارة دون العالمين، أي أن تطير في السّماء وتحلّق في أجوائها فوق رؤوس اللاعبين وتتبعها أبصارُهم وقلوبهم وتشرئبُ إليها أعناقهم، وإما أن يكون لها القبرُ؛ وقبرُها تحت أقدام اللّاعبين الذين وصفهم الشاعر "بالكُماة"، وهي جمعُ كميّ أو كامي؛ أي الفارسُ المستترُ بدرعه المتخفّي بسلاحه في أرض المعركة، فاللّاعبون هم فرسانُ معركةٍ حامية الوطيس لا تخضعُ الكرة إلّا لأقدامهم وهي بين حالين لا ثالث لهما؛ في الصّدرِ حيثُ تعتلي الأثير والأجواء أو في القبر تحت أقدام اللاعبين الفرسان.

ثم ينتقلُ الشاعر إلى صورةٍ جديدةٍ لكرة القدم فيجعلها الفتاة الحسناء المرغوبة التي تتجاذبها الأبصار وتعشقها القلوب؛ فيقول:

الكُــلُّ يـَعْـشـقُـهـا وعَـنـه يـَصُـدُّهـَا
فــَكَـأنَّ بَـيـنَـهـمَـا اللِّقـاءُ حَـرامُ

نعم... إنّ كرة القدم هي معشوقة الجماهير، الغانية الفاتنة، والحسناء الجميلة التي تجذب الكبار والصغار من مُحبِّيها؛ ويسعى وراءها اللاعبون من كِلا الفريقين المتنافسَين، فيهرعون إليها ويركضون باتجاهها للحصول عليها ونيل وصالها، حتى إذا ما وصل أحدهم إليها واطمأن إلى حيازتها والتنعّم بقربها وامتلاك زمامها ووصالها، سرعان ما يبعدها عنه مُمَرّراً إيَّاها، وكأنّه يردّد: معاذَ الله إنّي أخاف الله ربّ العالمين.

ما أبدع هذا التشبيه الذي جاء به الشاعر! أليست هذه حال اللاعبين من كلا الطرفين في ساحة المباراة؟! ألا يتنافسون للحصول عليها، وإذا ما تمكن واحدهم منها مرّرها لرفاقه لتحقيق الأهداف والنصر على الفريق المنافس؛ فكأنّه سعيٌ لامتلاكٍ سرعان ما يتحوّل إلى رغبة بالتخلي من أجل تحقيق الهدف الأكبر.

فاللاعبون يجرون خلف الكرة بحبٍّ كبير، لكنهم يبعدونها عنهم حين يصلون إليها وكأنّ وصالها من الكبائر، فهم كالعاشق المستهام الذي تناديه معشوقته بصوت فيروز "تعا ولا تجي"، فيأتيها بسرعة ثم يبعدها عنه على الفور أيضًا، ويبقى على هذه الحال طوال المباراة.

تــَهــوى فَــتَـلثـمُ رَأسَـه أو رِجـلَه
فــَـيـــصُــدُّهــا وبــهِ جـَـوىً وغـَـرامُ

يتابع الشاعر وصفه لحال الكرة مع اللاعبين وما يجمعهم بها من هِيَام، إذ يرى أنّ الكرة تبادلُ اللّاعبين العشق بالعشق، وتقدّمُ لهم عنوان حبّها، فتهوي إليهم وتبذلُ هواها معبّرةً عنه بلثمِ رأس اللّاعب الذي تعشقه أو تقبيل قدمه، وكأن الشاعر يرى أن مشهد ملامسة الكرة لرأس اللّاعب أو قدمه؛ مشهدُ حبّ ووصالٍ بين محبوبين، ويراه تعبيراً من الكرة المعشوقة لعاشقها اللاعب عن حبّها وهيامها به.

غيرَ أنّ المفاجأة تكمن في أنّ اللّاعب العاشق التوّاق لوصل معشوقته الكرة؛ يقابلُ وصلَها وتقبيلها لرأسه وقدمه بالصّدّ عنها وإبعادها عنه على الفور، فهو يصدّها ويبعدها عنه بحركة سريعةٍ بالرغم مما فيه من الحب والجوى، وبالرغم من الغرام الذي تفيضُ به روحه تجاه هذه الكرة، فعلاقته معها في حلقة مستمرة الدوران، لا تتوقّف عن إقبالٍ وصدّ ووصلٍ وهجر ولقاءٍ وافتراق، ويبقيان على هذه الحال ما دامت المباراة قائمة. 

وبعد هذا التشبيه المليء بمشاعر الحبّ والجمال ينتقل شاعرنا إلى تشبيهات جديدةٍ لكرة القدم في قصيدته "لعب الكرات"، سنتوقّف معها -بإذن الله تعالى- في المقال القادم. 
 

شارك: