المنتخب السوري.. على تليفزيون سيرونيكس 12 بوصة أبيض وأسود!

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-11-28 20:32
أرشيفية - لاعبي المنتخب السوري (facebook/syrianfa)
وسام كنعان
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

مرة كل أسبوع، المدينة تختفي، الروتين يُنسَى، ولا يبقى أي شيء سوى المعبد. ومع أن المشجع يستطيع مشاهدة المعجزة براحة كبرى، ربما على شاشة التليفزيون، إلّا أنّه يفضّل أن يزحف إلى ملكوته المرهف، حيث يمكنه مراقبة ملائكته على وجه الحقيقة وھم ينافسون الخصم!

بحضوره يبعث رياح الحماسة التي تدفع الكرة حين تغفو، مثلما يعرف اللاعبون جميعهم أن اللعب دون مشجع أشبه بالرقص دون موسيقى (وفي فترات انتشار كورونا والحظر أكبر مثال).

أمّا عندما تنتھي المباراة، فتسقط الظلال على الاستاد وھو يَفرغ من الحشود، وتشتعل ھنا وھناك على المدرجات الإسمنتية بعض مواقد النيران سريعة الانطفاء، بينما تخبو الأضواء ومعها بقايا الأصوات ليبقى الملعب خاويًا، ويرجع المشجّع كذلك إلى وحدته، يبتعد، يتفتت، ويضيع، ويصبح يوم الأحد كئيبًا مثل أربعاء رمادٍ بعد موت الكرنفال. 

على هذه الهيئة تصف الأدبيات العالمية بصيغة رهيفة وقراءة قصصية حالَ المشجّع لكرة القدم ومنطق التباين المهول للمدرّجات في أثناء اللعبة وبعدها.

أمّا في سوريا فاختصرت ربما الصيغة الفنية والأدبية للمشّجع المسكون بهاجس الكرة على حلقة من المسلسل الكوميدي الشهير "بقعة ضوء" وكانت بعنوان "أخلاق رياضية" تقارب -بصيغة تهكمية بقصد صناعة الفرح- أسلوبَ المشّجع البرشلوني (كمال) الذي عاش ومات في الريف السوري القصيّ!

لكن في زمن الأبيض والأسود كان بمثابة غوغل متنقّل، يوقظه أصدقاؤه عندما يتراهنون على المعلومة الرياضية، ويعجزون عن إيجاد سبيل للتأكّد منها فيعطيهم كامل الإحداثيات والتاريخ ومعظم المعطيات! بمعنى إن تلقى سؤالًا عن نتيجة مباراة، أجاب ببداهة وسرعة خاطفة، ومن ثم انتقل للثقة المطلقة وهو يشرح بقية التفاصيل عن الوقت الذي حققت في الأهداف، ومَن صنعها ومَن سجّلها، وبقية المعلومات!  

أمّا في أثناء المباراة، فكان كمال يتقدّم إخوته وأبناء عمومته غالبًا. يمنع عنهم الكلام أو المشاركة بإبداء الرأي، ولا يتوانى عن طرد أحدهم أو التلميح له بضرورة مغادرته، رغم أنه صاحب الدعوة، وأخلاقه خارج التسعين دقيقة غير تلك التي يصير عليها في أثنائها.. على المستطيل الأخضر الحرب المستعرة لا تعرف إلّا الهجوم، والاحتفاء المُطلَق بالنصر، أو التسخيف وتقليل شأن الهزيمة!

لم يعرف في حياته القصيرة "سوسة" غير الفوتبول، رغم أنه لا يجيد اللعب؛ لكنه يحلل ويضع خططًا، ومن وراء الشاشة يقترح بصوتٍ عالٍ على المدرّب ليستبدل منطقه، ويُقحِم الورقة الرابحة التي حان وقت استخدامها علّها تُعدِّل النتيجة. ثم إنه لا يساوم على الكرامة في الدوري السوري والنادي الكتالوني في الدوري الإسباني، ودوري أبطال أوروبا، والأرجنتين في المونديال، وهذه الأخيرة وفاءً لمارادونا وكرمى لعين ميسي، وهل يحتاج الأمر أكثر؟! لكن كان المنتخب السوري سيبقى في أولوياته؛ مهما كان حاله!

ذات مرة في أحد أيام الصيف الحارقة من تسعينيات القرن الماضي، كانت اللمّة ذاتها يتقدمهم كمال في صالون منزله الريفي الكبير الذي تحوّل إلى شِبه صالة سينما عُتِّمت بوضع البطانيات على النوافذ، وبعد تعاونِ ثُلثي الوافدين لتوجيه الهوائي الخارجي، وإنجاز صورة متماسكة لواحدة من قناتين أرضيتين كان ينعم بهما الشعب السوري آنذاك! المهم جهزت الجلسة واحتل الجمهور أماكن مختلفة، كلٌّ حسب وقت وصوله وحظوته.

تسمّر الجميع على الشاشة لمشاهدة مباراة هامة للمنتخب السوري، زادت الحرارة بينما العيون الحذرة شاخصة؛ حتى جاءت الهجمة كقلب لبؤة جريحة، اجتاح اللون الأحمر فريق الخصم كلهم دفعة واحدة، صاروا في منطقة الجزاء ومعهم كمال بثوبه الأبيض الحريريّ! لم يجد المدافع بديلًا عن الإطاحة بمَن يمتلك الكرة قبل التسديد بومضة، صافرة الحكم كانت بمثابة الإعلان عن فتح ممرات إنسانية على منطقة مُحاصَرة تعاني من القصف الهمجي يوميًّا.

صرخ الجميع وسددت ركلة الجزاء فطار عليها الحارس، ونجح في اختبارٍ تحاذي فيه قمة النجاح قاع الفشل. أعادها نحو الملعب. فانطلق عبد اللطيف الحلو يقضم العتم كشهابٍ، وأودع الكرة في حض الشباك الوديعة، فاشتعلت الغرفة بمن فيها... للحظة كان صوت كمال أعلى من صوت المدفع، ثم انقلب المشهد كوميديًّا صرفًا؟! أخذ الحماس  الرجل فتحوّل ثوبه إلى راية يُلوّح بها بعد أن خلعها وظل بملابسه الداخلية، وراح يجول على الحاضرين برقصات متناسقة! الحماس ذاته جعله مرةً يركب دراجته الهوائية ويجول شوارع قريته النائمة في سهول القلمون بحثًا عن بيت واحد يملك مُولّدًا كهربائيًّا يكفل له متابعة مباراة المنتخب بسبب انقطاع التيار الكهربائي.

وفجأة سَمِعَ صراخًا يوحي بأن هدفًا قد سُجِّل، فرمى الدرّاجة واقتحم المنزل دون أن يخوّله جنونه المتدفق لبرهة بأن يستأذن فيها قبل الدخول، حسبما تمليه الأعراف المُحافِظة لقريته، وإذا به بعد أن شاهد الهدف بالإعادة البطيئة يحتفل مع أهل البيت الذين كانوا أكثر الميسورين في القرية؛ لأنهم يملكون "بطارية سيّارة" تشغّل لهم تليفزيون "سيرونيكس"  (12 بوصة أبيض وأسود) راحت سكرة الهدف، وجاءت فكرة المشهد السوريالي! غريب يقتحم منزلًا ليحتفل بهدف المنتخب الوطني؟! حدّقوا جميعًا قبل أن يحدّق هو بنفسه.. ويتمتم بعقله: ماذا فعلت وكيف وصلت إلى هنا؟!

لم يسبق له أن علّق أعلامًا أو لبس قميص أحد الأندية أو الفرق؛ لكنه يعرف كيف يشاهد بكل جوارحه دون أن يخجل بردود أفعاله حتى وإن كان سيتابع المونديال في "مول" قريب من بيته الجديد مع العشرات ممّن خاب رجاؤهم بكل شي ولم يبقَ لديهم سوى الكرة وميسي.

مات شقيق كمال مطلع عام 2011، ثم لحقه والده، ليتوالى عقد الخسارات بذريعة الحرب السورية التي التهمت نصف عائلته، وفي صباحٍ شتوي مُبلّل بالأسى، ومزيّن بالآس المُعَدّ للموتى والمقابر، وتحديدًا في فبراير شباط 2016 بينما كان يقصد طريق شغله، انزلقت سيارته على أسفلت البلاد المنهكة من نيران المعارك الملتهبة، وسلّم الأمانة إلى بارئها على الفور، بينما ظلّت وراءه عائلة تعيش على ذكراه، ويتقفى أثره شغف خارق للمستديرة الساحرة، إلى جانب ما أنجزته عنه الدراما السورية بمثابة تحية!

شارك: