العنصرية.. حماقة أعيت من يداويها!

تحديثات مباشرة
Off
2023-05-26 18:02
البرازيلي فينيسيوس جونيور مهاجم ريال مدريد حظي بحملات تضامن كبيرة بعد تعرضه لإساءات عنصرية عديدة (Getty)
محمد العولقي
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

ألا أونو، ألا دوي، ألا ثري، من يفتح المزاد؟ من يشتري؟ هذا مطلع الأغنية المغربية الشهيرة والحكيمة (سوق البشرية)، للفنان المغربي الجميل عبد الوهاب الدكالي، مطرب أغنية (مرسول الحب).

وبين أغنيتي (سوق البشرية) و(مرسول الحب) يقف البرازيلي الواعد نجم ريال مدريد فينيسيوس جونيور بين نارين، نار عنصرية طاحنة وقودها مدرجات تتعصب للون الأبيض دون غيره، ونار رد فعل نفسي في صورة دموع ذرفها فينيسيوس دون أن تطفئ نار التفرقة العنصرية. 

في ملعب المستايا، الخاص بنادي فالنسيا الإسباني، تعرض فينيسيوس لأقذع العبارات العنصرية من جمهور فالنسيا، ولأن فينيسيوس ليس أي لاعب، وريال مدريد ليس أي نادٍ، فقد اشتعلت ردود الأفعال المنددة بهذا الفعل القبيح اشتعال النار في الهشيم.

وحتى عندما ظن الرئيس الأمريكي (إبراهام لنكولن) أنه حرر العالم الغربي من (العبودية)، وما يترتب عليها من قمع عنصري مقيت، لم يكن يعلم أن العالم الذي يدعي وصلًا بحقوق الإنسان وحقوق الإنسان لا تقر له بذلك، سيتراخى عن هذا الفعل غير الأخلاقي، وستقتصر محاربته على بيانات الشجب والإدانة والاستنكار.

وكنت أظن -وأنا المنبهر بالدعاية عن المساواة والعدالة في بلاد العجم- أن مفردة (أسود اللون) قد ذابت وتلاشت مع تجليات الفنان اليمني الكبير الراحل محمد مرشد ناجي الشهير بلقب (المرشدي)، الذي غنى لجميع ألوان الطيف، متغزلًا في الأسمر والأسود، ومسديًا نصيحة غنائية بالابتعاد عن الأحمر لدواع بصرية وليست عنصرية، غير أن الليالي غير الملاح في الملاعب الأوروبية أكدت لي أنني سيئ الظن.

وما حدث للشاب فينيسيوس في المستايا في أمسية عنصرية حمقاء كوم، وقرار الحكم كوم آخر؛ لأنه زاد الطين بللًا بإقدامه على طرد صاحب رد الفعل (فينيسيوس)، والتغاضي عن صاحب الفعل الذي خنق البرازيلي المسكين وكتم أنفاسه بطريقة تترجم وتنسجم مع الهتاف العنصري الذي دوى في مدرجات جمهور فالنسيا.

وفي ظرف قصير تحولت مشكلة فينيسيوس جونيور من أزمة عصفت بالشعارات الجوفاء التي يرددها الاتحاد الإسباني على استحياء إلى قضية عالمية على ألسنة رؤساء الدول واللاعبين والاتحادين الدولي والأوروبي.

وما يلفت النظر في الحملة الشعبية المضادة للعنصرية أنها اقتصرت كالعادة على مطالبة الجميع بالمساواة وعدم التمييز العنصري واحترام العرق واللون، ولكنها للأمانة حركت قليلًا من مياه حمرة الخجل الراكدة.

رد فعل رابطة الدوري الإسباني كان الأسرع في تاريخ الليغا، فقد جرى إلغاء البطاقة الحمراء التي أشهرها الحكم بناء على توصية كيدية من تقنية (الفار)، مع إغلاق المدرج الجنوبي لملعب المستايا لخمس مباريات وتغريم نادي الخفافيش 45 ألف يورو. 

ويا ألف سبحان الله، نفس العالم الذي يرفع شعار بوذا: "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم"، عندما يتعلق الأمر بهتاف عنصري ضد اللاعبين العرب والأفارقة، هم ذاتهم الذين يذرفون دموع التماسيح على قميص اللاعب البرازيلي فينيسيوس جونيور.

ذات مرة وقف جمهور كالياري الإيطالي في وجه مهاجم إنتر ميلان البلجيكي روميلو لوكاكو، كان اللاعب وقتها يتأهب لتنفيذ ركلة جزاء لصالح فريقه عندما أطلق الجمهور أصوات القردة في وجهه، ولم يحرك هذا السلوك العنصري ساكنًا، لا في بلجيكا ولا في إيطاليا.

نعم، كلنا عبيد الله وحده لا سواه لا نفرق أبدًا بين الألوان، فكم من أبيض ناصع غليظ القلب سليط اللسان يأكل لحوم الناس دون حياء، وكم من أسود فاتح أو غامق تربع على قلوب الناس مثلما حدث رياضيًا مع الملاكم المسلم محمد علي كلاي، وسياسيًا مع الأيقونة الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا.

هل تذكرون قصة الأمريكي جيسي أونز، الفائز بأربع ذهبيات في أولمبياد برلين عام 1936، مع النازي أدولف هتلر؟

كان هذا الرياضي المعجزة في لعبته ضحية اندلاع شرارة العنصرية في الميادين الرياضية، والسبب الذي يبطل العجب أن الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر رفض رفضًا نازيًا مصافحته، بحجة أنه رياضي أسود لا ينتمي للعرق الآري.

ومن بعد هذه الحادثة المؤسفة، عرفت الملاعب المفتوحة والصالات المغطاة أن العنصرية موجودة بقوة ما دام من ينفخ في رمادها زعماء ورؤساء واتحادات يقولون بألسنتهم ما ليس في قوبهم.

ولولا أن فينيسيوس لاعب يحتل صدارة شباك التذاكر، ويلعب لصالح أعظم وأشهر ناد على وجه الأرض، وخلفه شركات راعية تدر الملايين من احتكار موهبته الخارقة، لما تحركت قلوب المسؤولين، ولما نطقت ألسنتهم ببنت شفة، بدليل هذا الصمت المطبق تجاه ما يعانيه اللاعبون العرب والأفارقة في الملاعب الأوروبية من تمييز عنصري فاضح. 

لم يعد رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جيانو إنفانتينو بحاجة إلى المزيد من الوقت لسن قانون جديد يجرم من يخصبون العنصرية تحت ألسنتهم ويعاقبهم، فما الحاجة إلى تهديد ووعيد على الورق طالما الاستسهال يعود بحليمة لممارسة عادتها القديمة. 

منذ أن خرج لاعب برشلونة السابق الكاميروني صامويل إيتو من الملعب باكيًا، على خلفية نعته بالقرد من جماهير عنصرية رمته بقشور الموز، والاتحادان الدولي والأوروبي يحاولان إيجاد مصل يحمي الملاعب من آفة العنصرية.

أتذكر أن الاتحاد الدولي بالذات كان يدرس إيقاف أية مباراة إذا ما لاحظ الحكم سلوكا عنصريًا يستهدف ذوي البشرة السوداء، كما كان يلوح بالصوت فقط بمعاقبة الفرق التي يصدر من مدرجاتها أو لاعبيها شبهة عنصرية بالحرمان وبالطرد من البطولات القارية.

وانتظرنا كثيرا أن تنتقل تلك الحلول الجريئة من أوراق المكاتب إلى داخل الملاعب، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، وهو ما دفع هذا السلوك العنصري إلى التنامي في مختلف ملاعب القارة العجوز. 

الغرامة المالية وحدها ليست كافية لإيقاف مد السلوك العنصري في الملاعب ضد السود والطعن في كرامتهم بمناسبة وبدون مناسبة، وربما كانت دموع فينيسيوس قد حركت المشاعر الباردة قليلًا إلا أن إعلان حالة الطوارئ كلاميًا في مركز صناعة القرار لا تكفي.

حسنا هل تذكرون ردة فعل زعيم اليمين المتطرف الفرنسي جان ماري لوبان تجاه المنتخب الفرنسي الفائز بكأس العالم للمرة الأولى في تاريخ الديكة عام 1998؟

لقد خرج إلى العلن (عيني عينك) ليمارس مع الشعب الفرنسي الفرح وقتها فاصلًا من الوقاحة العنصرية، حين نعت لاعبي المنتخب الفرنسي بالأفارقة، وبأن الدماء التي تسري في عروقهم السوداء ليست فرنسية نقية.

اعتقد نادي بوروسيا دورتموند الألماني أن التوعية من العنصرية تكمن في نشر ثقافة التسامح من خلال فيديو، ضم نخبة من لاعبي دورتموند يتقدمهم المدرب يورغن كلوب واللاعب المصري السابق محمد زيدان، لكن هذا المشهد الذي يعود للعام 2009 لم يجد آذنًا مصغية داخل ألمانيا، ولم يفلح في قطع الطريق على المنحرفين الذين ينفخون في كير العنصرية. 

العنصرية سرطان خبيث لا يمكن استئصال ورمه من الملاعب الرياضية بالمهدئات والمظاهرات والندوات والشعارات الاستهلاكية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ليس هناك أفضل من الكي كآخر علاج فعال يحفظ للملونين كرامتهم في مجتمع أوروبي متغطرس لا يرى في الوجود إلا لونه.

شارك: