معاني "يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ" ودلالاتها في سورة يوسف

2023-03-11 11:28
أرشيفية- أطفال في كشمير يمارسون لعبة الكريكيت (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

وردت كلمة اللّعب في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موضعًا، ومن أشهر هذه المواضع الآية في سورة يوسف التي تتحدث عن الحوار بين إخوة يوسف وأبيهم عليهما الصلاة والسّلام؛ "قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ".

واللّعب المُرادُ في هذه الآية هو المعنى المقصود المتعارف عليه عند الناس وهو التسليّة والانشغال الماتع، وهو الفعل الذي إذا عمله الإنسان يُقال له لاعب، فإذا أراد الإنسان أن يلهو ويبتعد عن الجد بعمل ما، فإنه يمارس اللعب، وفي الحديث عن هذا المشهد القرآنيّ يقول الشّيخ محمد متولّي الشّعراوي: "ولأنّهم كانوا يخرجون للرّعي والعمل؛ لذلك كان يجب أن يأتوا بعِلَّة ليأذن لهم أبوهم بخروج يوسف معهم، ويوسف في أوان الطّفولة؛ واللّعب بالنّسبة له أمر مُحبَّب ومسموح به؛ لأنه ما زال تحت سنّ التّكليف، واللّعب هو الشّغلُ المباح لقصد انشراح النفس".

ويُفضِّل الشرع أن يكون اللعب في مجال قد يطلبه الجدُّ مستقبلًا؛ كأن يتعلمَ الطفلُ السباحةَ، أو المصارعة، أو إصابة الهدف؛ وهي الرماية وهكذا نفهم معنى اللعب: إنّه شُغُل لا يُلهِي عن واجب، أما اللّهو فهو شغُلُ يُلهِي عن واجب.

وهناك بعضٌ من الألعاب يمارسها النّاس؛ ويجلسون معًا؛ ثمّ يُؤذِّن المؤذن؛ ويأخذهم الحديث؛ ولا يلتفتون إلى إقامة الصّلاة في ميعادها؛ وهكذا يأخذهم اللّهو عن الضّرورة؛ أما لو التفتوا إلى إقامة الصّلاة؛ لَصَار الأمر مجرد تسلية لا ضرر منها.

وكذلك فإنّ صاحب الظلال سيّد قطب تحدّث أيضًا عن ترغيب إخوة يوسف لأبيهم من خلال حديثهم عن الرياضة؛ فقال: "أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون؛ زيادة في التّوكيد، وتصوير لما ينتظر يوسف من النّشاط والمسرّة والرّياضة، مما ينشّط والده لإرساله معهم كما يريدون".

كما أكّد الإمام الطّبري هذه الدّلالة للفظ اللعب بقوله: "وقولهم رتع فلان في ماله" إذا لها فيه ونعم وأنفقه في شهواته، حدثني أحمد بن يوسف قال حدثنا القاسم قال حدثنا حجاج عن هارون قال: كان أبو عمرو يقرأ: "نرتع ونلعب" بالنون قال: فقلت لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ قال: لم يكونوا يومئذ أنبياء.

وفسر الإمام الشوكاني اللعب في قوله "يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ" بأنّه الانبساط، وقيل: اللعب الذي يتعلمون به الحرب ويتقوون به عليه.

وفي تفسيره البديع "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم" تحدّث الإمام أبو السّعود عن أصناف الرّياضة المختلفة وهو يفسّر معنى اللعب فقال: " أرسله معنا غدًا إلى الصّحراء يرتع أي: يتّسع في أكل الفواكه ونحوها، فإنّ الرّتع هو الاتساع في الملاذّ ويلعب بالاستباق والتّناضل ونظائرهما مما يعّد من باب التّأهب للغزو، وإنما عبّروا عن ذلك باللّعب لكونه على هيئته؛ تحقيقًا لما راموه من استصحاب يوسف عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السّلام".

أمّا الإمام الجصّاص فقد عرّف اللعب ودلالته في الآية في كتابه القيّم "أحكام القرآن" بقوله: "واللّعب هو الفعل المقصود به التفرّج والرّاحة من غير عاقبة له محمودة، ولا قصدَ فيه لفاعله إلا حصول اللّهو، والفرح، فمنه ما يكون مباحًا وهو ما لا إثم فيه كنحو ملاعبة الرّجل أهله وركوبه فرسه للتطرّب والتفرّج ونحو ذلك، ومنه ما يكون محظورًا، وفي الآية دلالة على أن اللّعب الذي ذكروه كان مباحًا لولا ذلك لأنكره يعقوب -عليه السّلام- عليهم".

ولهذا التّعبير القرآني دلالات تربويّة كثيرة يمكننا استخلاصها واستنباطها من النصّ القرآنيّ ومن أبرز هذه الدّلائل التربوية التي يمكن أن نستنتجها من هذه الآية الكريمة:

الدّلالة الأولى: ضرورة التّناسب بين اللعب والمراحل النّمائيّة للطّفل

فاللّعب الوارد في الآية الكريمة فيه دلالة على وجوب أن هذا التناسب ومراعاة المراحل النمائية للطفل، فجاء الحديث عن الرّتع واللعب، أي تكريس معنى المتعة للطفل يوسف -عليه الصلاة والسّلام- في كلّ شيء؛ الاستمتاع بأكل الفاكهة والطعام، والاستمتاع بمراقبة إخوته في أثناء لعبهم، وهذا ما يمكن سيدنا يوسف -عليه السّلام- من المشاركة في لعبهم، فهو ما زال صغيرًا لا يقوى على لعب إخوانه الأكبر منه سنًا، وما يناسبهم من لعب هو التسابق الذي يعد من الألعاب التي ورد ذكرها بصراحة في الآية الكريمة.

الدلالة الثّانية: ضرورة التّنوّع بين اللعب الفردي واللعب الجماعي

تشير الآية الكريمة إلى نوعين من الألعاب، هما: اللّعب الفردي الذي دل عليه لعب سيدنا يوسف عليه السلام عندما تركه إخوته عند متاعهم "أغراضهم وملابسهم"، واللعب الجماعي القائم على المشاركة الجماعية في تسابق إخوة سيدنا يوسف عليه السلام.

فمن الضروريّ تحقيق احتياجات الأطفال بهذين النّوعين من الألعاب الفرديّة والجماعيّة؛ فوجودهما يحقّق التّكامل النفسيّ في بناء شخصيّة الطفل.

شارك: