الجَرْيُ في حياةِ الشّعراء الصَّعاليك

تحديثات مباشرة
Off
2023-12-20 19:19
أرشيفية- صورة للعداء الكيني إليود كيبشوج البطل العالمي في السباقات الطويلة (facebook/EliudKipchogeOfficial)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

هل سمعت من قبل بالمَثَل القائل: "أعدى من السُّلَيك"؟ وهل سمعتَ بالشعراء الصَّعاليك؟

تُعرف ظاهرة الصَّعلكة والشعراء الصّعاليك من العصر الجاهليّ، وحكايتهم تشبه حكاية روبن هود العالمية، فالصُّعلوك في اللغة هو الفَقِيرُ الَّذي لا يَملِكُ مالاً ولا رِزقًا يَعيشُ بِه. ثم تَطَوَّرَ معنى كلمة الصَّعْلَكةِ في العصر الجاهليّ وصار يدُلّ على الرِّجالِ الذينَ يَخْرُجونَ عن عاداتِ القَبيلةِ، فيَجتَمعونَ في البَراري، ويقْطَعون الطَّريقَ على الأغنِياءِ ويَسْرِقُون مِن أموالِهم، فيتَقاسَمونها فيما بَيْنَهم، ويُوَزِّعون قِسمًا منها على الفُقراءِ الآخَرين.

وقد كانَ كَثيرٌ مِن هؤلاءِ الصَّعاَليكِ شُعَرَاءَ مبرّزين، ونالوا شهرة واسعة في الجاهليّة وما بعدها، بسبب ما كتبوه من أشعار مميزة، ذات صبغة اجتماعية واضحة، فقد ذَكَرُوا في أشعارهم كثيرًا من الأحداث التي تدل على شَجاعَتِهِم وإقدامهم ومُرُوْءَتِهِم، وترسم أشعارهم صورًا جليّة للمعاناة التي عاينوها مع قبائِلِهِمْ، ولاقوه من الظُّلْمِ والجور والطُّغْيانِ، غير أن هذه المُعاناةُ التي اضْطَرَّتْهُم إلى مُجافاةِ قَبائِلِهم وهجرها والابْتِعادِ عَنْها، وتَفْضِيلِ حَيَاةِ الحُرِّيَّةِ والتَّشَرُّدِ في البَراري؛ هي نفسها التي أنتجت لنا أشعارهم المميزة، فقد كانوا يفضلون حياة البراري على البَقاء والعيش في ظلِّ القَبيلةِ مع الظُّلْمِ القائم الذي يُعانون منه في تفاصيل الحياة، مثل تَفْضِيلِ الغَنِيِّ على الفَقيرِ، وأكْلِ حَقِّ الفَقيرِ الذي لا يَمْلِكُ قُوَّةً أو مالاً لِيُدَافِعَ عن نفسه وحُقُوقِهِ.

وقد انقسم الشعراء الصّعاليك في الجاهليَّةِ إلى ثلاثةِ أقْسامٍ:

القِسْمُ الأَوَّلُ: وهم المعروفون بــالخُلَعَاء الشُّذَّاذ، أي الرِّجال والشّعراء الَّذِينَ خلعتهم قبَائِلُهم وطَرَدَتْهم من القَبيلةِ، وتَخَلَّتْ عن الاعْتِرافِ بِهم أو حِمايَتِهم، وذلك لِكَثْرَةِ جَرائِمِهِمْ، وانْقِلابِهم على عاداتِ القَبيلةِ، ومِن هؤلاءِ: حَاجِزٌ الأَزْدِيُّ، وقَيْسُ بنُ الحُدَادِيَّةِ الخُزَاعِيِّ، وأَبي الطَّحَّانِ القَيْنِيِّ.

والقِسْمُ الثَّاني: هم الذين يُعرفون بــأَغرِبَة العَرَبِ، أو أَبْناء الحَبَشِيَّاتِ السُّوْدِ، وهم الشُّعَراءُ الذينَ نَبَذَهُمْ آباؤُهُم ولم يَعْتَرِفوا بِهِم لِأن أُمَّهاتِهِم كنّ من الجواري والحبشيّات، ومِنْ هَؤلاءِ: السُّلَيْكُ بنُ السُّلَكَةِ السّعدي، وتَأَبَّطَ شَرًّا، والشَّنْفَرَى.

أمّا القِسْمُ الثَّالِثُ فيُعرفون بأنهم الصَّعَاليكُ المُحْتَرِفُونَ، وهم الشُّعَراءُ الصَّعاليكُ الذينَ اتَّخَذُوا من الصَّعْلَكَةِ مهنة وحِرْفَةً لهم، من أمثال  الشاعر المشهور عُرْوَةُ بنُ الوَرْدِ العَبْسِيّ، وكذلك أبو خِرَاشٍ الهُذَليّ.

غلب على أشعار الصَّعاليك الحَدِيثُ عَن آلام الفَقْرِ والجُوْعِ، ونجد فيها نِداءً قَويًّا ودعوة صريحة إلى الثَّوْرَةِ ضِدَّ الأَغْنِيَاءِ الّذينَ يَجْمعونَ الأموالَ، ولا يَبذِلونَها للفُقَراءِ من حولهم.

وإلى جانب ما امتاز به هؤلاء الشعراء من شَجَاعَة وصبر وبأس شديد في القِتالِ، كان لديهم صِفَة أخرى يمتازون بها من غيرهم؛ وهي سُرْعَةُ العَدْوِ، فقد كان الجري والعَدْوُ السريع أداةً عظيمة الأهمية عندهم حَتَّى سُمُّوا بالعَدَّائِيْنَ، وقد ضُرِبَتْ بِهِم الأَمْثالُ في شِدَّةِ العَدْوِ، فقالُوا: "أَعْدَى مِن السُّلَيْكِ" و"أَعْدَى مِن الشَّنْفَرَى"، وذلك لطبيعة الحياة التي اختاروها لأنفسهم، فقطع الطريق على الأغنياء والاستيلاء على متاعهم يحتاج إلى قامة رشيقة، وأرجل نحيفة خفيفة سريعة العدو!

ولا ندري إن كانت طبيعة الحياة قد أثرت فيهم فصار جَريُهم سريعًا لا يُجارَى، أم إنهم كيّفوا أنفسهم وعملوا على اكتساب الرشاقة واللياقة لخدمة أهدافهم في الاستيلاء والفرار، أم إن شظف العيش وفقر الحال وقلة المأكل والمشرب أدى بهم إلى ذلك. وتُرْوَى عَنْهُم قصص كثيرة تحكي عن سرعتهم الخارقة للعادة في العَدْوِ، وعن قدراتهم الفائقة في سِباقِ الحَيَواناتِ الضَّاريَةِ؛ ومن ذلك ما قِيلَ عَن تَأَبَّطَ شَرًّا: " إن تأبط شرًّا كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظر إلى الظباء فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله.. ويكاد لا يُرى لشدة سرعته".

وقد كان الشعر رديف الشعراء الصعاليك في الحياة التي اجترحوا طرقها بأنفسهم، فكانوا يَهْجُمونَ على المَناطِقِ ذاتِ الخَيرِ والخِصْبِ والماءِ، والمراعي التي يكثر فيها رَعْيُ الأغنامِ والإبِلِ، ويَرْصُدُونَ طُرُقَ القَوَافِلِ التجارية لمباغتتها ومهاجمتها والاستيلاء على ما فيها من خيرات. وعلى الرغم من أن الهدف كان نبيلاً، لكن وسائلهم لم تكن كذلك للأسف!

وكانوا يتفاخرون ويتغنّون في أَشْعَارِهِم بِمُغَامَرَاتِهِم، ويتحدثون عن كَرَمِهِم وعِفَّتِهِم ومساعدتهم للفقراء والمحتاجين، فلننظر إلى قول الشاعر أبي خِرَاشٍ الهُذَلِيُّ إذ يقول:

وَإِنِّي لَأُثْوِي الجُوْعَ حَتّى يَمَلَّنِي            ***    فَيَذهَبَ لَم يَدْنَسْ ثِيابي وَلا جِرْمِي
أَرُدُّ شُجاعَ البَطنِ قَد تَعلَمِـــــيْنَهُ        ***   وَأُوْثِرُ غَيْرِي مِن عِيَالِكِ بِالطُّعْـــمِ
مَخَافَةَ أَنْ أَحْيَا بِرَغْمٍ وَذِلَّــــــــةٍ          ***       وَلَلْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ عَلَى رَغْـمِ

ومما قاله تأبط شرًّا مفتخرًا بسرعة قدميه وواصفًا إياها:

أَرَى قَدَميّ وَقْعهمَا خَفِيفٌ‌   ***   كَتَحلِيلِ الظَّلِيمِ حَدَا رِئالَه

والتحليل هو ضرب من ضروب المشي، والمحلّل هو ثالث الجياد في السباق، والظليم هو ذكر النعام، والرأل هو ولد النعامة، وجمعه رئال. يريد أنه أسرع ممّا يمكن أن يتخيّل المرء، فهو يفوق أسرع الكائنات المشهورة بسرعتها!

شارك: