دييغو أرماندو مارادونا.. دراما تضليل الحكّام بـ"يد الشيطان"
سبق وأن قلنا مرارًا في مقالات سابقة بأنه عند الحديث عن الدراما في كرة القدم، فإنه من الصعب التوقف عن تذكّر الرجل الذي كان سببًا صريحًا في تعلّق كثيرين بهذه اللعبة، وصنع جرعات مفرطة من التشويق والتضليل فيها، والذي خلالها استحالت حياته إلى فيلم رعب طويل، حتى في نهايتها كانت موضع شكّ وتساؤلات، وتحقيقات وغموض!
الحديث طبعًا عن أفضل لاعب في التاريخ دييغو أرماندو مارادونا (1960-2020) والذي أنجزت عنه السينما العالمية فيلمين وثائقيين عظيمين: الأوّل صُوِّر سنة 2009 للصربي أمير كوستريتسا بعنوان «ماردونا» والثاني «دييغو ماردونا» أنجز سنة 2019 لآصف كاباديا، الذي يفتح فيه أرشيف ماردونا في الفترة التي لعب فيها لصالح نادي نابولي الإيطالي، ويعرض فيه لقطاتٍ عُرِضت لأوّل مرة في تاريخ ساحر الكرة الأرجنتينية. كذلك صدرت أربعة كتب تتناول سيرته الذاتية.
وبعيدًا عن حياته الشخصية والمنطق الذي عاش فيه ودمّر حياته وجعله قبلة لمخرجين وكتاب مكّرسين كي يبحثوا في كواليس شخصيته الغرائبية، إلّا أن الرجل يمكن اعتباره بأنه أكثر مَن ضلل الحكّام في تاريخه.
وهنا نستعرض لقطةً دراميةً مغمورةً في حياة الرجل الكروية؛ لكن لم تُتح لها الفرصة نحو الكثير من التداول:
ففي مونديال عام 1990 والذي استضافته إيطاليا كانَ المنتخبُ السوفييتي مُرشَحًا أوّلًا للبطولةِ رغمَ الظّروفِ السّياسيّة الضبابيّةِ في البلاد، فإنّهُ حافظَ على اتّزانِهِ وقوّتِهِ، خاصّةً بعد فوزهِ بالميداليّةِ الفضيّةِ وصيفًا لبطولةِ أُممِ أَوروبا عام 1988 في ألمانيا الغربيّة، والميداليّةِ الذّهبيّةِ لكرةِ القدمِ في بطولةِ الألعابِ الأولمبيّة بعدَ هزيمتِهِ لإيطاليا في نصفِ النهائيِّ والبرازيلُ في المباراةِ النّهائيّة، كما كان تحتَ قيادةِ المُدرّبِ الكبيرِ فاليري لوبانوفيسكي والّذي حقّقَ نجاحاتٍ كبيرةٍ مع المنتخبِ ومع نادي دينامو كييف، هكذا كرّستْ جميعُ الظّروفِ بما فيها العصيبُ على اسم منتخبِ الاتّحادِ السّوفييتي ووجودِهِ في بطولةِ كأسِ العالمِ كواحد من أهمِّ المنتخبات المُرشحة للفوزِ بالكأس، أو بلوغ المباراة النّهائيّة على أقلِّ تقدير.
أوقعتِ القرعةُ منتخبَ السوفييت في المجموعةِ الثانيةِ إلى جانبِ الأرجنتين حاملة اللقب، ورومانيا والكاميرون، وكانتِ المباراةُ الافتتاحيةُ أمامَ رومانيا في ملعبِ سان نيكولا في مدينةِ باري، حيث تمكّنَتْ رومانيا من الفوز، وتم الحديث بكثافة عن ركلة جزاء ظالمة احتُسبت ضدّ السوفييت.
بعد الخسارةِ في المباراةِ الافتتاحيّةِ، كانَ على منتخبِ الاتّحادِ السّوفييتيّ تحقيق نتيجة إيجابيّة في مباراتِهِ الثّانيةِ أمامَ الأرجنتين بطل النّسخةِ السّابقةِ من كأسِ العالمِ بقيادةِ أسطورتِها دييغو أرماندو مارادونا.. وهنا بيت القصيد، فقد هُزِمَ حامل اللقب في مباراتِه الأولى أمامَ الكاميرون بهدفٍ مقابلَ لا شيء، لتُشكِّلَ المباراةُ مفاجأةً لجماهيرِ البطولة. ففي الشّوطِ الأوّلِ وبينما كان التّعادلُ السّلبيُّ يُخيِّمُ على الملعبِ والفريقانِ يتبادلانِ الهجمات...
نَفّذَ منتخبُ السّوفييت ركلةً ركنيّةً تابعَها أحّدُ لاعبيه برأسيّةٍ وجّهَتِ الكرةَ صوب شِباكِ الأرجنتين وكادتْ أن تُعلنَ عن الهدف الأوّل؛ لكن قبْلَ وصولِ الكرةِ إلى المرمى اعترضَهَا مارادونا بيدهِ كما لو أنَّه يلعبُ في مركز حارسِ المرمى ليمنعَ الهدف! ورغم أن التّدخّلَ يستوجِبُ طردَ مارادونا بالبطاقةِ الحمراءَ مُباشرةً واحتسابِ ركلةِ جزاءٍ للسوفييت, فإنَّ الحكمَ السويديّ إيريك فريدريغسون -رغمَ وضوحِ الحالةِ بشكلٍ كبيرٍ ووقوفه في موضعٍ مناسبٍ لرؤيةِ تدخُّلِ مارادونا غيرِ الشّرعيّ- قد «تعامى» من وجهة نظر أنصار الفريق السوفيتي عن اللعبة تمامًا، ولم يحتسبْ أيًّا من الأمرين.. لتنتهي المباراةُ بتقدّم الأرجنتين بهدفين دون رد، مُعلنةً عن خروجِ منتخبِ الاتّحادِ السّوفييتيّ من آخرِ مشاركةٍ لهُ في كأسِ العالمِ قبلَ تفكّكِهِ في العامِ التّالي..
مارادونا نفسه الذي سجّلَ بيدهِ على الإنجليزِ في نهائي مونديال 1986، حقّقَ نصرًا للفقْر على القهر بصيغةٍ مجازيةٍ فناصرَهُ الكوكبُ بأسره، بل إنَّ جمهورَ المنتخبِ الأرجنتينيِّ والصّحافةِ الرّياضيّةِ في العالمِ أطلقوا على يدهِ في تلكَ اللحظةِ اسمَ «يدِ الله» باعتبارِ أنَّ الإرادةَ الإلهيّةَ هي التي حقّقتْ فوزَ الأرجنتينِ بهذا الهدفِ وحصدت بسببهِ كأسَ العالم.
حتى أنَّ الشاعرَ الفلسطيني الراحلَ محمود درويش كتبَ مقالًا طويلًا يصفُ فيه الأسطورةَ دييغو، ختمَهُ بالقول: "يا مارادونا، يا مارادونا، ماذا فعلْتَ بالسّاعة.. ماذا صنعْتَ بالمواعيد؟" وإلى يومِنا ما زالَ العالَمُ يضجّ بتلكَ الحادثةِ، وأخيرًا أعلنَ الحكمُ علي بن ناصر والّذي أشرفَ على هذهِ المباراة أنّه ما زال مُحتفظًا بالكرة الّتي سجّلها مارادونا بيدهِ في شباكِ إنجلترا كما أعلنَ عن عرْضِها للبيعِ بمزادٍ علنيّ أقيم في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، وقد بِيعت بالفعل في باريس بمبلغ 2.4 مليون دولار أمريكي وقد حصل الحكم التونسي على الكرة لأن الفيفا سمحت للحكام بالاحتفاظ بالكرات في ذاك المونديال، وصرّح بن ناصر أنه سيتبرّع بجزء من المبلغ للأعمال الخيرية ويحتفظ بالباقي لنفسه.. كما بِيعَ قميصُ مارادونا الّذي خاضَ به تلكَ المباراةُ بمبلغٍ وصل إلى 8 ملايين يورو.
وإن كانتْ شُهرةُ لمسةِ اليدِ تلكَ لمارادونا والّتي ما زالَ صَداها يتردَّدُ ضمنَ أروقةِ الفيفا إلى الآن بسببِ نَيلِ الأرجنتين على أساسِها كأسَ العالم، فقد ظلّت لمستُهُ الشبيهةُ بطريقةٍ معاكسةٍ في مونديال 1990 ضدّ السوفييت غيرَ معروفةٍ سوى على نطاقٍ ضيّقٍ لدى المهتمينَ بتاريخِ كأسِ العالمِ. لدرجة أن فريقًا صحفيًا عربيًّا شابًا قد أعد منذ فترة قصيرة مسودة فيلم وثائقي بعنوان : "يدُ الشّيطان" للتركيز عمّا يعتبرونه ظلمًا تحكيميًّا كان قد تعرض له منتخب الاتحاد السوفييتي تاريخيًّا، ويستعرضون فيه اللقطة التي أخرجَ بها دييغو ماردونا هذا الفريق من آخر كأسِ عالم لهم، كما أنهم أطلقوا على تلك اللمسة اسم "يد الشيطان" كنقيض للتسمية التي أُطلِقت إعلاميًا على هدفه الشهير ضد إنجلترا!