حلم الزهرة

تحديثات مباشرة
Off
2023-11-28 16:51
حلم الزهرة.. الجزء الأول من (العالم في واحد) أول فصول رواية زهرة لوسيل (SC)
إسماعيل أحمد
الفريق التحريري
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

الرحلة وصلت إلى المنتصف تقريبًا، تحديدًا إلى اليوم الثالث عشر من أصل تسعة وعشرين، فيما مضى كانت تستغرق وقتًا أطول يمتد إلى حوالي أربعة أشهر وعشرة أيام، مئات السفن ترسو على مسافات متقاربة في الهيرات، النوخذة حاكم زمانه في السفينة، يمتثل لأوامره جميع أفراد الطاقم، ويتبع هو رئيس النواخذة أو السردال الذي يستمد سلطاته بقرار من أمير البلاد.

أحيانًا يطول زمن الرحلة أو يقصر قليلًا، السردال هو الذي يحدد الوقت المناسب، يصدر أوامره فينطلق موسم الغوص في يونيو عندما تشتد حرارة الشمس وتصير المياه دافئة للعوم إلى قعر البحر بحثًا عن اللؤلؤ، وفي إحدى ليالي أكتوبر، يطلق قذيفة في الهواء الطلق فتنفرج أسارير البحارة وتبدأ طقوس القفال.

كان ذلك منذ زمن بعيد؛ لكنه لا يفارق وجداني، منذ عهد مدينة الزبارة وصولًا إلى زمن الشيخ جاسم وبضعة عقود من بعده، كان يملأ المكان رهبة وجلالًا، لم أكن أجرؤ على الإمعان في النظر إليه من فرط هيبته، وأكتفي بمشاهدته خلسة من بعيد.

أخذت أتأمل تعابير وجهه من وراء النوافذ التي كانت مشرعة لدخول نسمات الهواء، كانت ليلة طيبة معتدلة الطقس لم يشهد أهالي الدوحة مثلها منذ زمن، أوى فيها الشيخ جاسم إلى فراشه بعد يوم لافح شديد الحرارة بدأه باجتماعٍ مع كبار مساعديه، قال إن قطر قد انتزعت مكانها بين الأمم والشعوب، وكيان الدولة بدأ بالتشكل ولا تراجع للوراء، ولا بد من المضي قدمًا في الطريق لبناء الدولة بأي ثمن، وينبغي اتخاذ الحكمة نهجًا لبلوغ الغايات مع إظهار الحزم والقوة عندما يقتضي الأمر، والتحلي بالشجاعة والبسالة في كل الأحوال.

تصبب العرق من جبهته بغزارة مع نهاية الاجتماع، موسم الصيف كان في أوجه، السماء لا تبشر ولو بقطرة ماء. الماشية صارت جلدًا على عظم، والأرض تشققت من فرط الجفاف، والنسوة يتطلعن إلى ما وراء خط الأفق الممتد على الماء حيث رجالهن والسفن واللؤلؤ هناك، والناس تنظر بصمت إلى السحب الخفيفة يحدوها أمل ورجاء.

خرج ساعة الضحى يتقدم شعبه الذي اصطف وراءه لأداء صلاة الاستسقاء، رفع يديه وأغمض عينيه وهو يلهج بالدعاء بخشوع، غاب في مناجاة طويلة، سأل الله أن يتدارك العباد برحمته، وأن يحمي البلد من الأخطار المحدقة ويخلف ظنون أعدائهم المتربصين، رفع رأسه إلى السماء وهو يتابع في صمت: نحن مخلصون لك في كل الأحوال، نفعل الخير دائمًا، وهدايانا تُدخِل الفرحة إلى قلوب الحزانى، وقد أتينا إليك في هذه الساعة نطلب هذه الهدية منك وأنت أعلم بما ظهر وما خفي من الحال، وكلنا ثقة أنك ستسعفنا بمرادنا وتتحفنا بعطاياك. قلَّب فكره للحظات ثم صدح بصوته منشدًا:

يا الله يا منشي الغمام الثقالي * ومخلف ظنون الناس عما يريدون
ويا ناصرٍ عبدَه وجندَه وزَالِي * عنُهمْ هَلْ الأحزَاب بالذُّل يَقْفُون
تعز مَن لك صادقٍ بالمقالي * وبالفعلْ والأعمالْ ظاهِرْ ومكنون
حنَّا حرارٍ في ليالي السيالي * هداتنا يفرح بها كل مغبون
ونفوسنا ترخصْ لنا كل غالي * ونرخص بها في ساعة الناس يغلون

أخذت أنظر إليه باهتمام عندما أغمض عينيه واستغرق في الدعاء مجددًا، تمتم بكلمات غير مسموعة، وقبيل أن يفتح جفنيه هبَّت نسمة باردة، اندفع تيار الهواء المنعش ليغمر الجموع المحتشدة خلفه، وتوارى قرص الشمس وراء حجب كثيفة من سحب أخذت تتشكل سريعًا، ولم يكادوا يبرحون مكانهم حتى كانت ثيابهم قد تبللت تمامًا من الماء.

تهلل وجه الشيخ جاسم وهو يرى مظاهر الفرحة تعم الناس، ردَّدتُ معه عبارات الحمد والثناء التي كان يلهج بها لسانه بينما الماء يتقاطر من لحيته المبللة بالندى، رفع يده عاليًا لتحية شعبه، ثم امتطى فرسه ليمضي وهتف بأقصى صوته: هذه أول علامة في المسير، وستتوالى بشائر الخير تباعًا إن شاء الله.

في الساعات الأولى من الليل، أذهب إلى الهيرات لأشهد جلسات السمر القصيرة التي يعقدها البحارة بعد عناء يوم طويل، أستمتع بسماع مغامراتهم وأطرب لصوت النهامين الشجي، أظل دائمًا قريبًا منهم وأساعدهم قدر استطاعتي عندما تقتضي الحاجة.

أسكن هذا المكان منذ أكثر من خمسة وثمانين ألف سنة، لم ترني خلالها عين بشر إلا في حالات استثنائية شديدة الخصوصية، ولكن لم يتبق الكثير حتى تغدو رؤيتي متاحة لهم جميعًا، وإلى أن يتحقق الوعد، سأظل متواريًا خلف الحجب التي لا تسمح للبشر بالاتصال بي مباشرة، وحدي أنا من يملك الحق للتواصل بهم من طرف خفي، ومساعدتهم عندما يتطلب الأمر في التغلب على المعضلات.

في منتصف الليل، أحلق فوق سماوات الجزر والمسطحات المائية القريبة، ويتناهى إلى سمعي صوت الكواكب والنجوم وما تحتها من اليابسة والمياه وهي ترنم بإيقاع واحد وتهلل وتسبح لله، أحلق حتى أبلغ الذرى، ثم أهبط حتى أكاد ألامس المياه، أعود للتحليق بمستوى مرتفع، أجري مسحًا بصريًا للمكان، أتأمل العالية وشراعوه وحالول وسائر الجزر الأخرى، وعندما أطمئن إلى أن كل شيء على ما يرام، أعود أدراجي إلى اليابسة وأتجول ما بين البرية والمدن والفرجان، وأتفقد الناس لأرى إن كان هناك مَن لا يزال يشغله شيء وأستطيع مساعدته أم ناموا بسلام.

في كل يوم تكون هناك بعض الحوادث التي تستدعي تدخلي، أبذل قصارى جهدي وأفعل كل ما يمكنني فعله، وبعد أن أفرغ يكون قد مضى من الليل معظمه، ومهما يكن الأمر، لا أستطيع أن أمضي ليلتي دون زيارة سوق واقف، ثم أتجه نحو الشيخ جاسم لأقضي ما تبقى من الوقت قريبًا منه، أصل إليه قبل أذان الفجر بنحو ساعة، أحيانًا آتي قبل أن يستيقظ بلحظات وتارة وهو يصلي أو يسبح ويقرأ القرآن.

كانت الأرض لا تزال نديةً عندما وصلتُ في تلك الليلة، أعاد الماءُ الحياةَ إلى اليابسة، وبدأت النضارة تعود إلى زهرة لوسيل، يتكاثر عددها وتنمو عندما يأتي المطر، وعندما تقلع السماء يأمر الشيخ جاسم بجلب الماء العذب لها حتى لا تخبو منها جذوة الحياة.

وصلت متأخرًا في تلك الليلة لكن الشيخ جاسم كان لا يزال نائمًا على غير العادة، ربما نال منه التعب بعد يوم مكتظ، ولعل اعتدال الطقس وبرودة الهواء ساعداه، تملكني الذعر عندما رأيت ملامحه يبدو عليها الانزعاج الشديد لبعض الوقت، ثم رُدَّت إليَّ روحي عندما أخذ ثغره يفتر عن ابتسامة بدت لوهلة يسيرة، وما لبثت أن توسعت حتى تهلل بها محياه.

بعد صلاة الفجر، أشار الشيخ جاسم إلى رجل مسن قد تجاوز الثمانين، طلب منه الدنو ليجلس أمامه وأخذ يقص عليه رؤياه؛ السماء كانت ملبدة بطبقة كثيفة من البارود، الرصاص يلعلع والقنابل تدوي من كافة أصقاع الأرض، تنطلق لتدمر أهدافها تمامًا وتتطاير منها الشظايا إلى كل مكان، القارات السبع أخذت تتفكك أوصالها وتتباعد، ملايين الجثث المتعفنة في البراري والصحاري والشواطئ وأعماق البحار.

زهرة لوسيل يتناقص عددها وتذوي، احتفظ بأعداد كبيرة منها لتتكاثر بالقرب منه ويحميها من الأخطار، خرج شواظ لاهب دخل معظم البيوت وأخذ كثيرًا من الأهالي، الناس تستغيث وترفع أكفّها إلى السماء طلبًا للرحمة، وبعد حين خبت جذوة النيران، وما إن بدأت الحياة تعود حتى طمَّ البحر المنازل بموجه الهادر وجعل النسوة يتشحن بالسواد.

بدأ موسم الغوص الكبير ولم يذهب البحارة، مرَّ بهم أحد أحفاده وهم يفترشون الأرض في حالة وجوم، ربت على كتف أكبرهم سنًا وهتف بهم: ما جلوسكم هكذا من دون عمل؟! تعالوا معي لتضربوا في الأرض وتبتغوا من فضل الله.

تفجّرت ينابيع الأرض، وانهمر شلال السماء، المطر جعل الأرض تخضرّ، زهرة لوسيل أخذت تورق بلونها البديع ويتكاثر عددها في كل مكان، بعض الزهرات استطالت وبدأ حجمها يتمدد لتتخذ هيئة مدارس وجامعات ومتاحف ودور كتب ومسارح وملاعب ومستشفيات ومصانع وجزر ومبانٍ عملاقة وحدائق ومدن جديدة تتلألأ منها الأضواء.

شارك: