ثلاثةٌ رابعهم لا يشبهك!

تحديثات مباشرة
Off
2023-12-18 15:29
ثلاثة رابعهم لا يشبهك! الجزء الثاني من (عودة الوجه القديم) ثاني فصول رواية زهرة لوسيل (SC)
إسماعيل أحمد
الفريق التحريري
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

أعود من ذلك الزمن الباذخ إلى الحاضر؛ لأضع أمام سريرك باقة الزهور النادرة التي جلبتُها لكَ من لوسيل، أتأمل وجهك الشاحب وجسدك الذي أنهكته سنوات حياتك الحافلة التي تجاوزت الثمانين، صحيح أن جسمك قد خانك كثيرًا في السنوات الأخيرة ولم يصمد معك حتى النهاية، لكن من الجيد أنك ما زلت تُقبِل على الحياة وتنظر دائمًا إلى الجانب المشرق، سوف أترك جسدك هنا إلى جوار ابنتيك وأطبائك وممرضيك، وآخذ معي هذه الروح العذبة وأضيء لأجلك أبراج لوسيل؛ لتطل منها على العالم صورتك، وأجعل سماء الدوحة تتلألأ بقميص عملاق مكتوب عليه اسمك مع رقمك الأثير 10؛ حتى يتذكر الناس الوجه القديم الذي جاء إلى هنا قبل نحو نصف قرن، وتشهد عن قرب اختيار وريثك الذي سيغدو ملك القرن الجديد؛ هناك ثلاثة أنت تعرفهم جيدًا، أحدهم من بلد غريمك اللدود الذي فارق منذ فترة وجيزة عالمنا وتتمنى أن تراه في رحلتك القادمة لتمارس معه رياضتك المفضلة ذات يوم! والآخر أثار شجنًا قديمًا وذكريات محببة إليك من رقصتك الأولى التي قدمتَ بها نفسك إلى العالم في السويد، وجعل الناس تستعيد ذكراك عندما بلغ أقصى درجات المجد وهو فتى يافع لم يبلغ العشرين، وما زالت لديه الرغبة والحماسة لتكرار ذلك حتى يقترب خطوة أخرى من إنجازك الاستثنائي الذي لا يزال صامدًا منذ أكثر من ستين عامًا، والثالث نجم لامع يتحدث البرتغالية مثلك ولا يكل من حصد النجاحات ومراكمة الإنجازات، لكن شهيته تأثرت في الفترة الأخيرة وسنه قارب الأربعين، أمّا الرابع وآه من الرابع، فهو ابن جلدتك الذي تتمنى أن يرث عرشك ويجلب الفرحة إلى شعبك، ولكنه تاه بعيدًا ولم يستطع أن يحزم أمره أمام المغريات الكثيرة كما هو حال العديد من القادمين من بلدتك، وخانه جسده ونالت من ساقه الآلام مرات عديدة كان آخرها منذ نحو أسبوع، كانت الناس تنتظر منه الكثير، لكنه الآن يبتعد عن زملائه الثلاثة بمسافات شاسعة، ولكي ينجح في الرهان أمامهم هذه المرة، جلب معه كتيبة مدججة بالفرسان الذين يعوِّل عليهم لمساعدته حين الملمات.

أخذتَ ترمقني بنظرة امتنان وأنت تشاهد صورتك تتوهج في أبراج لوسيل وعشرات الطائرات تضيء الأفق بصورة قميصك الأسطوري، الدوحة تبدَّت في أبهى زينتها كدانة وسط اللآلئ، والناس في حالة بهجة وتطلُّع للبطل القادم، وأنت تنظر إليَّ بذهول وتترقب الخطوة القادمة.

وصلتَ معي إلى الدوحة في ساعة متأخرة، طفقتُ أحلّق بك فوق سمائها في منظر جوي وأتلطف لك في الحديث، لكن لا يبدو أنك كنت تستمع إليَّ، أتفهم حالة الذهول التي تمر بها وعلامات الدهشة التي ارتسمت على ملامحك، رأيتُها من قبل ملايين المرات، كلّ مَن أتى إلى هنا ورأى ما تراه يمر بهذه الحالة؛ لكن انبهارك كان أشد لأنك أتيتَ إلى هنا منذ زمن طويل، وتستطيع أن تدرك حجم التطور الهائل الذي حدث.

أتركك لتحلق في فضاءات المكان غارقًا في بحر ذهولك وأذهب سريعًا لإنجاز بعض المهمات العاجلة وأتفقد ضيوفي القادمين من كل مكان، سوف تظل روحك معي حتى نهاية هذه الرحلة بسلام تام، لن ينال منها ألمٌ، ولن تصدر عنها شكوى أو تبرم بعد أن تحررتَ من قيود الجسد وشيخوخته وآلامه المبرحة ومتاعب العدوى في الجهاز التنفسي والداء العضال.

رجعتُ إليك سريعًا بعد جولة خاطفة، كل شيء يسير حسبما هو مُخطَّط له وبدقة متناهية. لا تزال حتى اللحظة لم تستفق من ذهولك، أصدرتُ صوتًا خافتًا لأنبهك لقدومي، ثم كررتُ العبارة التي قلتُها لك في لقائنا الأول منذ نصف قرن "مرحبًا بك في عاصمة الرياضة العالمية"، أقولها هذه المرة وقد تحوّل الحلم إلى حقيقة وأكّدنا للعالم كله أننا على الوعد.

لجأتُ لاستخدام تقنيات متقدمة جدًا للتحاور معك، مستعينًا بفراستي الكبيرة وقدرتي الفذة على قراءة الأفكار، أحفّز ذاكرتك المتعبة لأرى هل ما زلتَ تتذكر كيف كانت الدوحة في زيارتك الأولى وكيف صارت الآن؟ تومئ برأسك موافقًا وتتساءل بدهشة: مَن كان يتخيل أن كل هذا سيحدث؟

هممتُ بأخذ دوري في الكلام لكنك انبريتَ لمواصلة الحديث: بلى، أستطيع أن أتخيل كل هذا وأكثر، في بلدي كانت الناس تتوق لرؤية بطل، جلبتُ لهم الذهب والمجد وقدَّمتُ لهم أكثر مما كانوا يتصورون، منحتهم أسرار اللعبة وعلّمتهم كيف يمكن أن يتحولوا كلهم إلى أبطال، لكن مهمتي لم تكن سهلة؛ عملتُ ماسحًا للأحذية ورأيت أبي يذرف الدموع والناس تقع مغشيًا عليها من هول الصدمة بعد الكارثة التي حلت بالبلاد. لم أستسلم للظروف الصعبة، ووعدتهم بأن أنتشلهم من كل ذلك وأرتقي بهم إلى المكان الذي يستحقونه وقد كان.

قابلتُه بابتسامة قبل أن أُعقِّب: جميعنا يدرك قيمة ما فعلت وأبراج الدوحة تشهد بذلك والعالم كله يُقِرّ ويعترف، ولكن مَن قال لك إن حياتنا كانت وردية، لم نولد وفي فمنا ملعقة من ذهب كما تتخيل، كانت الظروف صعبة وأسوأ بكثير مما يمكنك تصوره، لكننا حلمنا وآمنّا بأحلامنا ووضعنا لأنفسنا أهدافًا محددة واستطعنا رؤيتها تتحقق، وها نحن وصلنا إلى ما تراه الآن.

أومأ برأسه موافقًا وأردف: يا له من أمر مذهل! حقًّا هناك قصة ملهمة وراء كل إنجاز عظيم، أغمض جفنيه وأخذ يهمس بنشوة: ما أبهى فرحة الاحتفال بما ننجزه! وما أجمل لحظات الانتصار! فتح عينيه ولمع منهما وميض خاطف وهو يخبرني مع ابتسامة ممزوجة بأمل ورجاء: لا أطيق الانتظار لرؤية أبناء بلدي يواصلون نثر سحرهم ويتقدمون خطوة أخرى نحو الحلم الكبير حتى أستطيع أن أرقد بسلام، سألني عن تاريخ اليوم ثم أخبرني بأنه لا يزال هناك وقت قبل أن يحين موعد النزال القادم لأبناء بلدته؛ لذلك فهو يرغب الآن في سماع قصتنا، قصة الإنجاز الذي حققناه، وكيف حدث ما حدث منذ زيارته لنا في المرة الماضية وصولًا إلى الآن.

أخبرته بأن اهتمامه بسماع قصتنا مصدر سرور، لكن لكي يفهم ما حدث لا بد أن يعود إلى نقطة البداية، وهذا يعني الرجوع إلى وقتٍ أبعد ممّا يتصور، وسيكون عليه سماع تفاصيل كثيرة جدًّا ربما يصعب عليه فهم بعضها، وإن كنتُ سأبذل كل ما بوسعي لأقدمها إليه بأبسط صورة؛ فأجاب بأنه متشوق حقًّا لسماع القصة حتى لو استغرق الأمر وقتًا أطول؛ لأنه يُقدِّر كثيرًا الناس الذين يتشبثون بأحلامهم ويقهرون كل الصعاب والتحديات.

- هل أنت متحمس؟

هزَّ رأسه مع ابتسامة مشرقة، فهمستُ له:

- إذن؛ سيكون عليك الانطلاق معي في رحلة تستغرق أكثر من خمسة وثمانين ألف سنة!

شارك: