أنا ذلك الواحد

تحديثات مباشرة
Off
2023-12-04 16:32
أنا ذلك الواحد.. الجزء الثاني من (العالم في واحد) أول فصول رواية زهرة لوسيل (Getty)
إسماعيل أحمد
الفريق التحريري
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

تفجرت ينابيع الأرض، وانهمر شلال السماء، المطر جعل الأرض تخضر، زهرة لوسيل أخذت تورق بلونها البديع ويتكاثر عددها في كل مكان، بعض الزهرات استطالت وبدأ حجمها يتمدد لتتخذ هيئة مدارس وجامعات ومتاحف ودور كتب ومسارح وملاعب ومستشفيات ومصانع وجزر ومبانٍ عملاقة وحدائق ومدن جديدة تتلألأ منها الأضواء.

أخذ يحملق بدهشة في زهرة كانت بالقرب منه تبدّل شكلها ليتحول إلى ما يشبه وعاء بيضاوي عملاق، لونها تغيَّر إلى الذهبي مع طبقة بيضاء تغطيه من أعلاه، الزهرة تطاير عبيرها وعمَّ كل الأرجاء، الرائحة الزكية جذبت الناس فتوافدوا من كل مكان، خلْقٌ كثير لا يُحصَى عددهم من كافة الأمم والأجناس، فيهم الكبير والصغير والذكور والإناث، زينة وأضواء وآلات حديثة لم يسبق له رؤيتها، ومساحات خضراء مستطيلة انبثقت من زهرة لوسيل نَمَتْ في أماكن مختلفة، ثم استطالت واتخذت هيئات شتى، كل واحدة منها بها مصطبات كثيرة عليها مقاعد اكتظت عن آخرها بأولئك الناس، إحدى الزهرات تشكلت لتتخذ هيئة الخيمة لكن بعكس لونها المعتاد، الناس هنا يجعلونها عادةً بلون أسود مع خطوط بيضاء؛ لكن التي رآها كانت بلون مائل إلى البياض مع خطوط سوداء، زهرة أخرى بشكل قبعة دائرية بيضاء عملاقة ومزركشة، ثالثة بهيئة قارب عملاق وشراع، رابعة تجمعت من صناديق ملونة ضخمة، وخامسة على هيئة جوهرة عملاقة تنعكس عليها أشعة الشمس فتزدهي بألوان بديعة، سادسة وسابعة متشابهتان وقريبتان من بعضيهما كما لو أنهما توأمان، والثامنة هي التي رآها بالقرب منه وكانت بإطار مُذهَّب وشكل شديد الشبه بالوعاء.

الدول والقارات أخذت تتقارب من بعضها وتلتحم ثم بدأت تدخل واحدة تلو الأخرى في قطر، العالم صار كله كتلة واحدة، الدوحة أضحت عاصمة الدنيا، والسماء تحوّل لونها إلى العنابي، والناس يتوافدون من شتى الجهات إلى قطر قادمين من البر والبحر وعلى مراكب ضخمة في الهواء.

أخذ يتمشى مشدوهًا ويجيل بصره في الناس المحتشدة على امتداد شاطئ الدوحة وصولًا إلى راس أبو عبود، رأى أحد أحفاده يقف على سطح سفينة هي الأضخم يرفرف أعلاها علم قطر، وأمامه عدد من السفن لم يحصِ عددها بالضبط، ربما يكون ثلاثين أو أكثر بقليل، كان يقودها نواخذة من مختلف الأشكال والألوان، وعلى صارية كل سفينة قد انتصبت راية بشكل مختلف وألوان تميزها عن غيرها.

بدأ النواخذة يتوافدون على حفيد الشيخ جاسم تباعًا ويقدمون له التحية، أخذوا يتبارون على عرض أفضل ما في هيراتهم من اللؤلؤ وهو يصدر أحكامه عليها ويأمر لهم بأعظم الجوائز، لكن الدانة التي قدمها أصغر النواخذة سنًا كانت هي أكثر من نالت استحسانه.

أحنى النوخذة الأصغر سنًّا رأسه ليتلقى من حفيد الشيخ جاسم قلادة ذهبية، وبعد أن تقلدها توقف ليقص عليه حكاية الغيص الذي استخرج له الدانة؛ كان كل النواخذة يتنافسون على ضمه إلى مراكبهم، جاب بحار الدنيا السبعة واستخرج كل أنواع اللؤلؤ وجنى ثروات عظيمة، لكن الدانة هي الوحيدة التي استعصت عليه، قطع لأجلها رحلات بعيدة وفتش عنها في أعمق الهيرات، وكلما سنحت له فرصة وظن أنه على وشك الظفر بها ينقطع نفسه أو يداهمه قرش يبحث عن فريسة لمائدته فيجذب الحبل ويسارع السيب إلى نجدته قبل فوات الأوان.

التقط نفَسَه برهة ثم عاد ليكمل حكاية الغيص: خلع عنه ملابس الغوص ورماها بقنوط، أعلن أمامنا أنه سيترك البحر دون رجعة، لم نحاول لحظتها إقناعه بمحاولة العدول عن قراره، تركناه يستريح ولم نأخذه معنا في الموسم التالي، لكنني لم أشك لحظة في قدرته على الفوز بالدانة، وما ظننته يظفر بها إلا عندكم يا أمير البلاد.

في الموسم التالي، آثر الغيص العدول عن قراره عندما رأى أحوال أهالي بلدته تسوء، تجمّع الناس حوله وأخبروه بأنه هو الوحيد الذي يستطيع مساعدتهم، زم شفتيه وأطرق إلى الأرض مفكرًا، هز رأسه معلنًا أنه مستعد لأن يُقدِّم روحه من أجلهم، بشرط ألّا يعودوا إلى لومه إذا لم تكن الظروف مواتية أو حدث شيء لم يكن في الحسبان.

صعدتُ معه إلى السفينة وأنا أخبره بأن عليه أن يستمتع برحلة الغوص فحسب، وأن يبذل قصارى جهده كما كان يفعل دائمًا، بغض النظر عما سيحدث بعد ذلك، قلت له إن الحصول على الدانة مهمة صعبة، قد يعثر عليها المرء مرة واحدة في عمره وربما لا يحالفه الحظ، ودونها عقبات كبيرة وأهوال، ومن الممكن أن تسلم قيادها لغيص قليل الخبرة أحيانًا، وتدير ظهرها لأكثرهم حذقًا ومهارة في كثير من الأحيان، لكن من كان مثله لا يجوز بحقه الاستسلام. أعدت تذكيره بقصص الغاصة العظماء من أسلافه، وما صادفوه في طريقهم من صعاب وعقبات جمة أكبر من أن يتصورها خيال.

توقف النوخذة عن الحديث أخيرًا، أحس بالوجل مخافة أن يكون قد أطال في الحديث، لكن ابتسامة حفيد الشيخ جاسم أعادت إلى روحه السكينة والاطمئنان، مضى من أمامه مزهوًا، وبعد لحظات أخذ يتأمله بإعجاب وهو يشير إلى تحفة ذهبية، وقبل أن يسلمها للغيص كساه رداء الملوك ذا اللون الأسود المطرز بالذهب من الحواف.

أمير قطر يلبس ميسي البشت وين وين winwin كأس العالم 2022

سرت لحظات صمت مهيبة سيطر فيها الذهول على الرجل الثمانيني، ولما استطال السكون، التفت الشيخ جاسم نحوه طالبًا منه الحديث، سرت رعدة في جسد الرجل المسن وهو يسأله بوجل: أؤولها لكم وأنتم من أنتم؟

- أليس المؤمن مرآة أخيه؟

استجمع الشيخ قواه وبدأ يحدثه: أطال الله بقاءكم يا حاكمنا المعظم، رؤيا طيبة بإذن الله، سوف يقبل خير عميم لا ريب، أكبر بكثير مما يمكننا أن نتخيل الآن، لكن دون ذلك ستكون حرب لا تبقي ولا تذر ووباء يستشري في البر وحادث جلل في البحر وكساد كبير في تجارة اللؤلؤ يجبر أبناءنا على التوقف عن الغوص والتحول إلى مهن أخرى، سوف يضيق بهم الحال برهة، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس.

هز الشيخ جاسم رأسه موافقًا، ثم نظر إليه كمن يستزيده فاسترسل بعد لحظات من التفكير: رؤيا عجيبة حقًا ولا تليق إلا بكم؛ حباكم الله مواهب عديدة قلَّ أن تجتمع لأحد، أنتم الحاكم والإمام والخطيب والفارس والشاعر والقاضي والعالم والفقيه، فلا عجب أن يجتمع العالم كله في أرضكم. كأني بالدوحة قد تبدَّت في أبهى زينتها وأقبل إليها وفود كبيرة وخلق لا يُحصَى عددهم من مختلف الأمم والبلدان، لا أعرف كيف ولا متى ولا لأي غرض. لن يحدث ذلك في أيامنا ولا في عهد من بعدنا، هذا مؤكَّد، عسى أن يكون في زمن أحد أحفادك هؤلاء.

أشار الشيخ جاسم إلى ثلة من أبنائه وأحفاده، ناداهم بأسمائهم واحدًا تلو الآخر ورتبهم أمامه في مجالسهم، ومن خلفهم اصطف مَن تبقى من الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد وجموع الناس، ثم وقف أمامهم خطيبًا، بدأ بحمد الله والصلاة على رسوله الكريم، أوصاهم بتقوى الله وطاعته ومواصلة المسير وعدم التقهقر أو النكوص مهما كانت العقبات ثم أخذ يخبرهم:

بشراكم يا أهل قطر، صبرتم كثيرًا ولم يتبقَّ سوى القليل ثم يعم الرخاء، علامته ضيق شديد في أول الأمر، ثمة سنوات مجدبة بها تُمتحَن معادن الرجال (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)، فإياكم أن توهن الأيام عزمكم، ولا تيأسوا من روح الله، تضرعوا إلى ربكم طلبًا للرحمة وارفعوا أكفكم إلى السماء، شدوا المئزر وأيقظوا الهمم واستعينوا بالصبر والصلاة، وليس بعد العسر إلا اليسر، وما بعد الشدة إلا الرخاء.

تمشّى في الطريق إلى خارج المسجد ثم امتطى فرسه التي كانت تنتظر متحيرًا في رؤياه، أخذ يستعيد مشهد تقارب الدول والقارات وتلاحمها ودخولها واحدة تلو الأخرى في قطر وتعبير الشيخ الثمانيني لذلك، ثم توقف برهة وتمثَّل بقول الشاعر:

وليس على الله بمستنكَرٍ  *  أن يجمع العالم في واحدِ

ضرب الشيخ جاسم إلى صدره وهتف:

- أنا ذلك الواحد!

شارك: