البرازيليون يولدون وهم يلعبون كرة القدم!

2022-08-29 19:11
قائد البرازيل السابق دونغا يرفع كأس العالم بعد التتويج بمونديال 1994 (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

تمر في ذهني أفكار ومشاهد من طفولتي بولع والدي بكرة القدم وعشقه للأسطورة البرازيلية بيليه، ولا أزال أتذكر وجهه متأثرا بشكل كبير عندما كان يشاهد لقطات له على التلفاز، إذ كان يقول بصوت مرتفع وبشغف لا يخفى على أحد: "هذا بيليه! هذا بيليه!" في إشارة منه إلى أنه ليس شخصا عاديا أو مثل أي لاعب.. وما جعل والدي متعلقا أكثر بـ "الجوهرة السوداء"، هو الزيارة التي قام بها لمسقط رأس والدي، العاصمة اللبنانية بيروت، قبل أسبوع واحد من اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 والتي استمرت 15 عاما.. 

لم يتوقف انبهار والدي عند هذا الحد وسروره العارم بحضور "أسطورة السامبا" إلى لبنان، بل ازداد بلعب بيليه بقميص فريق والدي المفضل وصاحب الشعبية الجارفة "النجمة" في مباراة ودية أمام فريق "منتخب جامعات فرنسا"، بحضور 50 ألف متفرج. ويبقى تاريخ 6 أبريل/ نيسان 1975 محفورا في تاريخ الكرة اللبنانية، وعنوانا لعرس رياضي كبير عاشته بيروت ولن يتكرر.

تعلق والدي بـ "بيليه" جعل منه ومنا جميعا في المنزل مشجعين للمنتخب البرازيلي بشكل كبير، حتى والدتي التي لا تعرف شيئا عن كرة القدم، إذ أن أغلبية جماهير هذه اللعبة من الذكور، خصوصا في الشرق الأوسط والعالم العربي.. لكن هذا المشهد تبدل في  لبنان خلال منافسات كأس العالم، وأتذكر أن الجميع، إناثا وذكورا، كانوا يشجعون منتخبات معينة في التسعينينيات، وأعلام بلدان المنتخبات المشاركة في المونديال ترفرف على شرف البيوت وتُباع في المحلات التجارية التي نسميها "دكاكين"، وفي الأكشاك المتجولة على الطرقات وفي الشوارع.

لا يغيب عن بالي استيقاظ والدي في منتصف الليل أو سهره لوقت طويل منتظرا مباريات كأس العالم 1994 التي أقيمت في الولايات المتحدة، ولم يمنعه فارق الوقت من شغفه بمشاهدة المنافسات.. وبما أن المونديال يُجرى عامة في الصيف عندما تُغلق المدارس أبوابها ولا يجب علي أنا وشقيقتيّ، زينة وفرح، الاستيقاظ مبكرا، كنا نرافق والدي في سهراته ونتابع معه المنافسات متحمسين لحماسه، دون أن نعلم كثيرا عن كرة القدم.. كان والدي يفسر لنا بعض قواعد اللعبة وكيف تُحتسب ركلة الجزاء والتسلل وما هي لمسة اليد وغيرها من القوانين..

كنا نتابع مختلف المباريات لكننا كنا ننتظر متحمسين مباريات البرازيل بالتحديد ومنتخبات كبيرة أخرى مثل الأرجنتين وإيطاليا.. إذ كانت هذه المنتخبات ولا تزال لديها شعبية جماهيرية مرتفعة في لبنان، لكن المنتخب الألماني كان يُعد أشد المنتخبات اللدودة للبرازيل، لذلك كنا نكره الألمان ومنتخب المانشافت.. 

على الرغم من ذلك، كنا على دراية باللاعبين المهمين آنذاك من أوليفر كان وأوليفر بيرهوف وتوماس هيلمر ويورغن كلينسمان! أسماء ووجوه لن يغيبهم الزمن مهما برزت نجوم أخرى.. هذا ولم تكن منتخبات مثل إسبانيا وفرنسا لديها شأن كبير في بلدي، لعدم تتويجهما سابقا بأي لقب مونديالي..

يورغن كلينسمان

كان يزداد حماسنا في المنزل مع تقدم المنافسات وتأهل البرازيل للأدوار المقبلة حتى وصولها للنهائي، كنا متفائلين كثيرا بإمكانية تتويجه للمرة الرابعة، في ظل وجود لاعبين من أمثال دونغا ومازينيو وبيبيتو وروماريو وكافو.. كنا نحفظ هذه الأسماء الغريبة عنا ونرددها..

دائما ما أسترجع في ذاكرتي المشهد الشهير في مونديال 94، باحتفال بيبتو بتسجيله هدفا في مرمى منتخب هولندا في ربع النهائي، وهو يمد يديه وكأنه يحمل طفلا رضيعا، في إشارة إلى مولوده الجديد، ليحتفل معه زميلاه روماريو ومازينيو بنفس الحركة على يمينه ويساره.. (البرازيل أنهت المباراة بالفوز بنتيجة (3-2)).

بيبيتو رافعا يديه احتفالا بمولوده الجديد

كنا متحمسين كثيرا خلال المباراة النهائية بين البرازيل وإيطاليا، كنا نتابع باهتمام وعيون جاحظة مهارات نجوم الخصم كذلك من باولو مالديني وجان فرانكو زولا وروبرتو باجيو حينما كان شعره طويلا ومربوطا.. حتى انتهاء المباراة بالتعادل السلبي (0-0) واللجوء إلى ركلات الجزاء الترجيحية...

كنا متوترين للغاية، فسر لنا والدي أن 5 لاعبين من كل منتخب سينفذون هذه الضربات، والفريق الذي يسجل أكثر يتوج باللقب.. كانت لحظات لا تنسى بالنسبة لنا، خصوصا عندما أهدر باجيو ركلة الجزاء الأخيرة لدى "الطليان"، وهو مشهد محفور في تاريخ المونديال... لم نصدق أن البرازيل فازت باللقب، احتفلنا بجنون في المنزل مع رفع الكابتن دونغا كأس العالم..   

روبرتو باجيو

لم نشاهد أنا وأخواتي أي مباراة لكرة القدم بعد ذلك، حتى جاء مونديال 1998 في فرنسا.. تعرفنا في هذه النسخة على نجوم جدد، وتأثرنا بالبرازيلي روبرتو كاروس وبراعته بهز الشباك من ركلة حرة بشكل خارق، رغم قصر قامته.. كنا نتابع باهتمام مواطنه رونالدو الملقب بـ "الظاهرة"، الذي صُنف حينها بأفضل لاعب في كرة القدم، وفاز بجائزة الكرة الذهبية عن أفضل لاعب في مونديال 98.. كانت أعيننا تلاحق صديقته الشقراء الحسناء في المدرجات.

صديقة رونالدو نازاريو السابقة

 تابعنا مهارات ريفالدو ودينلسون وإدموندو، وفرحنا كثيرا برؤية كافو ودونغا وبيبيتو مجددا... كنا فخورين جدا عندما علمنا أن المدرب البرازيلي ماريو زاغالو من جذور لبنانية، وأصل اسم شهرته "زكور" وهو من منطقة زحلة... وهو حامل الرقم القياسي بعدد التتويج بكأس العالم، مرتين كلاعب (1958، 1962) ومرة كمدرب (1970 مع البرازيل) ومرة كمساعد مدرب (1994 مع البرازيل).

ماريو زاغالو مدرب البرازيل السابق

كنا نتحمس لبعض المشاهد اللافتة في تلك النسخة، كاللقطات التي جمعت مدرب منتخب إيطاليا الراحل تشيزاري مالديني وابنه اللاعب في صفوف المنتخب باولو مالديني... استرجعنا ذكرياتنا وتذكرنا باولو في نهائي مونديال 94 بين البرازيل وإيطاليا..

الصورة
المدرب تشيزاري مالديني وابنه اللاعب باولو

لم نصدق مجريات منافسات مونديال فرنسا، وكيف تقدم الديوك حتى النهائي، انتظرنا المشهد الختامي بفارغ الصبر، كانت والدتي وبعض من حولنا من أصدقاء وجيران وأقرباء يقولون إن فرنسا ستفوز لأنها تلعب على أرضها، كنا نزعل لسماع ذلك ولا نصدق أن ذلك ممكنا.. حتى وصلوا للنهائي وحفظنا أسماء لاعبيهم من ليزارازو وليليان تورام وزين الدين زيدان "زيزو" وإيمانويل بيتي ولوران بلان وتييري هنري ودافيد تريزيغيه، وحارس المرمى فابيان بارتان المشهور بصلعة رأسه..

لم تصدق أعيننا ما حدث وكيف أن بطل العالم هُزم بثلاثة أهداف دون رد!! كان المشهد صادما بل صاعقا بالنسبة لنا في المنزل، حزنا كثيرا ولأيام عدة... 

زيدان

بقيت متابعتنا، أنا وشقيقتّي، لكرة القدم، تلازم منافسات كأس العالم، كنا نستبدل تشجيعنا للبرازيل بمنتخب آخر مثل إيطاليا أو الأرجنتين، عندما كان يخرج السيليساو من البطولة.. فرحنا لتتويج إيطاليا بكأس العالم 2006 بعد الفوز على فرنسا في النهائي بركلات الجزاء (5-3) عقب انتهاء المباراة بالتعادل (1-1)، وشعرنا أن الطليان ثأروا لنا من فرنسا التي جردت البرازيل لقبها عام 98، و"نطحة" زيدان" الشهيرة برأسه نحو صدر الإيطالي ماركو ماتيرزاي، لا تزال تراودني.

زيدان وماركو ماتيراتزي

لم نكن نتقبل نجاح منتخبات لم تفز باللقب سابقا... فكان مونديال 2010 في جنوب أفريقيا صادما لنا بفوز إسبانيا، بعدما كان جميع من حولنا يصر على أنه المرشح الأقوى للقب، بسبب فوزه ببطولات عدة...

ومع توالي السنين، لا يزال المنتخب البرازيلي فريقي المفضل، لما له من ذكريات محفورة في قلبي وذاكرتي منذ الطفولة، وبسبب أيضا انبهاري بمهارات اللاعبين العالية وفنياتهم ومراوغتهم للكرة وبراعتهم أمام المرمى وسرعتهم..

ازداد شعوري ورأيي الشخصي بأن البرازيليين أفضل من يلعبون كرة القدم، عندما ذهبت إلى ريو دي جانيرو خلال كأس العالم 2014، وشاهدت الناس يلعبون كرة القدم على شاطئ كوباكابانا حافيي القدمين، واهتمامهم الكبير بلياقتهم البدنية، صغارا وكبارا ومسنين، وكيف يتمرنون ويركضون منذ الصباح الباكر، شعرت أن كرة القدم جزء لا يتجزأ من حياتهم وعاداتهم، وأن حبهم للرياضة مُتجذر في أعماقهم... فأطلقت المقولة التالية: "البرازيليون يولدون وهم يلعبون كرة القدم!".

زيارتي للبرازيل في مونديال 2014

حبي للبرازيل يمتد إلى الكرة اللاتينية، منبع المواهب، بحسب رأيي، لكن ينقصها الأموال والتنظيم والابتعاد عن الفساد وتمسك اللاعبين باللعب في أرضهم وعدم اغترارهم بالصفقات الكبيرة في الخارج، كي يعلو شأنها شأن الكرة الأوروبية.. 

ومع اقتراب كأس العالم في قطر نهاية هذا العام، سأكون موضوعية في تغطيتي الرياضية للمنافسات في أول مونديال بالشرق الأوسط والدول العربية، لكنني سأكون مشجعة وفية للسامبا إضافة إلى منتخب إنكلترا، لأنني تربطني صلة عائلية بالإنجليز، علّ "كرة القدم تعود إلى ديارها" كما يرددون دائما في كل محفل دولي كبير..


إنجلترا، مهد كرة القدم، هل ستتمكن من تكرار إنجاز عام 1966 وأن تحتفل الملكة إليزابيث الثانية مرة أخرى بتتويج منتخب بلادها بكأس العالم بعد رفعها كأس جول ريميه منذ 56 عاما؟

الملكة إليزابيث في كأس العالم 1966
شارك: