الرياضة ودورها في صياغة النظم الاجتماعية

تحديثات مباشرة
Off
2023-08-05 13:52
ممشى مخصص بمنطقة أرينبيرغ في شمال فرنسا (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

لقد برزَ الاهتمام بالرّياضة خلال القرن المنصرم بسبب الكثير من الظّروف الاجتماعية والتّغيرات الثقافية الاجتماعية العميقة التي وقعت في عموم المجتمعات البشريّة في مختلف دول العالم إبان تلك الفترة، والتي أدت إليها تفاعلات الثورة الصّناعيّة التي أثرت عميقًا في البنية الاجتماعيّة للمجتمعات الغربيّة ابتداءً ثمّ امتدّ ذلك إلى سائر المجتمعات.

لقد كان التّتويج الفعلي لنجاح الرياضة بوصفها ألعابًا دوليّة وبطولات منظمة في العصر الحديث في إحياء الألعاب الأولمبيّة وإقامة أول دورة أولمبيّة حديثة عام 1896م، ولقد كان النجاح المطرد والتقدم الهائل في إقامة هذه الدورات من أهمّ العوامل العامة التي أثارت الاهتمام بالرياضة على كل المستويات، لا سيما المستوى المجتمعي العامّ، كما أسهم في ذلك الدور الكبير للغاية الذي لعبته وسائل الإعلام التي كان يمثل التليفزيون أهمها في تقدّم الرياضة لعموم الناس في المجتمع وتبسيط مفاهيمها وأفكارها وقوانينها وجعلها محببة، بل أسهم ذلك في تشكيل اتجاهات إيجابية نحوها وظهور الاهتمامات المتزايدة من أجل اكتساب اللياقة البدنية.

لقد ازداد حضور الرياضة في المجتمع بشكل مطرد من وقتها لأنّ ضبط الوزن والحصول على الرشاقة والقوام المشوق، إضافة إلى الثقافة البدنية والاهتمام بالجسد، تغلغل في مختلف النظم والأنساق الاجتماعية، وذلك نتيجة عوامل التغير الثقافي والاجتماعي الذي أحدثته الثورة الصناعيّة وانتشار التيارات الفكريّة المعاصرة ونمو القوى العاملة في المجتمعات وإضفاء الطابع الاجتماعي على العمل وظروف الحياة؛ أجل لقد تأثّرت الرّياضة والأنشطة البدنية بهذه التغيّرات في مجملها؛ حتى أضحت نظرة هذا العصر واتجاهاته نحو الرياضة والثقافة البدنية مختلفة تمامًا عمّا عداها في العصور الماضية.

وفي ظل رياح التغيير الثقافي والفكري التي هبّت على العالم والتي كان من أهم ملامحها زيادة الاعتماد على تقنيات الإنتاج المتقدّمة، ما أثمر وقت فراغ أكثر يحتاج إلى شغله بالنشاط؛ فقد وضعت أهداف جديدة للرياضة وللتربية البدنية.

ولقد لخّص الدكتور أمين أنور الخولي أهمّ العوامل المؤثرة في النمو الاجتماعي للرياضة في كتابه "الرياضة والمجتمع" بما يلي: "تزايد عدد المشتركين في الرياضة، وتزايد الاهتمام بتحطيم الأرقام القياسية، وتزايد عدد المشاهدين للمسابقات الرياضية، وفاعلية الأنظمة والمؤسسات الرياضية، واهتمام الأنظمة السياسية بالإنجازات الرياضية، وتأثيرات وسائل الإعلام في نشر الرياضة، وتزايد وقت الفراغ، وارتفاع مستوى المعيشة، وتزايد الاهتمام بالصحة العامة واللياقة، وتزايد فاعلية التربية البدنية المدرسيّة، ودخول الأعمال والمصالح التجارية في مجالات الاستثمار الرياضي".

واستنادًا إلى أفكار فيلسوف التربية بروبيكر Brubacher التي تفيد بأن هناك قوى اجتماعية قد أثرت وستؤثر في ثقافات العالم سواء بالخير أو بالشر، وأن هذه القوى تشكل نظرتنا للطبيعة الإنسانية على نحوٍ واقعي، كما أنها تعبر عن قضايا تاريخية موجودة ومستمرة منذ قديم الأزل، وفي ضوء هذه الأفكار يعتقد زيغلر Zeigler ــمفكر التربية البدنيةــ أن هذه القوى تؤثّر في النّشاط البدني والرّياضة إلى حدّ كبير، من حيث أنها نظام اجتماعي ــ ثقافي، وهذه القوى هي: القيم والمعايير، السّياسة، الاقتصاد، الدّين، البيئة.

ولقد عبّر بويل Boyle عن المفهوم نفسه في كتابه "الرّياضة مرآة الحياة الأمريكيّة" مشيرًا إلى أنّ الرّياضة تنفذ وتتغلغل إلى أيّ مستوى من مستويات المجتمع، فهي تلمس وتؤثر بعمق في مكونات اجتماعية عديدة، كالوضع والمكانة، مجال الأعمال، تصميم السّيارات، موضة الملابس، مفهوم البطولة، اللّغة واللغة الدّارجة، القيم الخلقيّة، وهو يعتقد أنّه بغضّ النّظر عن مثالب الرّياضة إلّا أنّها تعطي الحياة الأمريكيّة المادّة والشّكل والاتجاه المميّز.

إنّ الرياضة بوصفها نظامًا اجتماعيًّا يدفعنا إلى استذكار ما قاله خوزيه كاجيكال: "عندما ننظر إلى الرّياضة نجد أنفسنا أمام نوع من التّمرين البدني أو من الحركة الجسمانيّة التي لا يقوم بها الإنسان، استجابةً إلى دافع حياتيّ؛ لكن يقوم بها تعبيرًا تلقائيًا عن تأصيل نفسي ــ حيوي؛ يجسّد جوهر الرّياضة وروحها، فهو الذي جعل منها قوّة اجتماعية ونسقًا ثقافيًا، والذي أضفى عليها مقوّمات النّظام الاجتماعي، والذي يتوقّف نجاحه أو فشله على استعدادات المجتمع الذي يحتويها".

إنّ الرياضة غدت نظامًا مجتمعيًّا وليست مجرّد ألعاب تمارسها فئة محددة أو محدودة من النّاس، وهذا يقتضي النظر إليها بوصفها أحد أهمّ العوامل المؤثرة في البيئة الفكريّة والهوياتيّة للمجتمعات المعاصرة.

شارك: