رِياضةُ الأبدانِ حِصْنٌ للأَوطَان

2023-03-19 12:42
أرشيفية - السعودي الخزعل علي أحمد من اختصاصي رفع الأثقال (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

لطالما ارتبطت قوّةُ الأجساد بالشّجاعة والقدرة على صَدِّ أيّ عدوان أو خطرٍ يهدّد المرءَ وما يعنيه من أهل ومال وعِرض وشرفٍ ووطن، وهو أمرٌ حقيقي وبَدَهيٌّ لا جدال فيه، فمَن قَويت بُنيته الجسدية وحَسُنت لم يَخَفْ ممّا يواجهه من مخاطر ما دامت ضمن نطاق قدراته وتحمّله، والعكسُ صحيح فمَن ضَعُفَ بُنيانُه البَدنيّ كان أكثر خوفاً من أيِّ صغيرة تُلِمُّ به.

في مثل هذه الأيّام منذ مئة عام ونيّف، وتحديداً في الثّامن عشر من شهر آذار؛ تعرَّض مضيق جناق قلعة في تركيا لحملة عسكرية شرسة شَنَّتْها قواتُ التحالف عليه، وأثقلت كاهل المقاتلين آنذاك وألحقت بمَعدّاتهم خسائر فادحة بما حطّمته بقذائفها التي توالت على المضيق كوابلٍ من أمطار غزيرة.

وفي شبه جزيرة (غاليبولي) في مَعقل (روملي) على وجه الخصوص؛ كان الجندي المسؤول عن تلقيم المدفعية يُدعى (سيد علي)، وكان ذا بنية جسدية متينة، على الرغم من أنه لم يكن ضخم الجسم كما تذكر كتب التاريخ، إلا أنه كان رياضيّ البدن وقويّاً جسوراً مقداماً، وما كان منه حين رأى رافعة القذائف قد تكسّرت وتحطمت إلّا أن ألقى بنفسه مكانها، فعَمل عملها، وأخذ على عاتقه رفع القذائف وحملها ونقلها إلى فوهة المدفعية لتلقيمها، ويُذكر أن كل قذيفة كانت تزن ما يقرب من مئتين وخمسة عشر كيلو غراماً، وفي رواية أخرى ما يقرب من مئتين وسبعين كيلو غراماً، وأيَّاً يكن وزنها الفعلي، يكفي أن نعلم أنّها تزن أكثر من مئتي كيلو غراماً، حتّى نُصاب بالدّهشة لسماع ذلك، والعجبِ من إمكان حدوثه في الواقع... لكنه حقيقة بالفعل حسب إجماع الروايات التاريخية.

ويُذكر أنّ هذا الجندي بما حمله من قذائف إلى فوّهات المدفعية كان السبب في غرق كثير من سفن التحالف الفرنسية في البحر، فقوات التحالف آنذاك كانت تسعى إبان الحرب العالمية الأولى إلى اجتياز المضيق مروراً بشبه جزيرة غاليبولي، ووصولاً إلى إسطنبول العاصمة واحتلالها.

لذلك يُخلّد الأتراك هذا التاريخ ويحتفلون به كلّ عام؛ إذ استطاعوا أن ينتصروا في تلك المعركة، وأن يصمدوا في وجه أعدائهم من الإنجليز والفرنسيين، على الرغم من سقوط آلاف الشهداء من الطرفين.

والمغزى من ذلك كلّه أن قوة الأبدان أمرٌ مطلوب، بل حاجة مُلِحّة للصمود في وجه المخاطر مهما صغرت أو كبرت، ولم يغفل أدبنا وشعرنا العربي عن هذه الفكرة بل طرقها بعذوبة وناقشها بموضوعية وجمال، وفي ذلك يحضرني قول الشاعر المعروف، إبراهيم ناجي؛ إذ يقول في رياضة الأبدان:

قُلْ لِلبُناةِ المُصلِحينَ أَلَا اخلُقُوا *** شُمَّ الذُّرَى ورَواسِخَ الأوطَاد
جِيلاً مِنَ النَّشْءِ القَويِّ إذا مَشَوا *** رَفَعُوا الرُّؤوسَ بِعِزَّةٍ وعِناد
لا خَيرَ فِي الأَروَاحِ تَسكنُ مَنزِلاً *** مُتَهدّماً رَثّاً مِنَ الأجسَاد
لا خَيرَ فِي الأَروَاحِ تَسكنُ مَوطناً *** مُتخاذِلاً لا يُرتَجَى لِجِلَاد

يُؤكّد الشاعرُ في هذه الأبيات فكرةَ الرَّبطِ بين قوة البدن والحفاظ على الأوطانِ منيعةً مُحَصَّنة، ويُلقي بالمَهَمّة على عاتِق مُرَبِّي الأجيال ومُنشِئيها، ثمّ يُعلِّل ذلك بانسيابٍ لغوي شعري جميلٍ قريبٍ من النفوس حين يقول: ما النفعُ وما الخير في منزل تسكنه أرواح بأجسام هزيلة؟ وأين يكمن الخير والإباء والعزّة في أوطان يتخاذل أبناؤها عن الدّفاع عنها وفدائها بالأرواح والأجساد حين يلزم الأمر.

وما من سبيل لتحقيق ذلك إلا بترويض الأبدان وتدريبها على مواجهة الصّعاب، وإعدادها لتحمّل الأعباء والمصاعب، وتجهيزها نفسياً وبدنياً لفداء الأوطان إذا ما ناداهم منادي الجهاد يوماً ما.

ويَحضُرُ المَعنى نفسُه في شِعر نِيكولا الصَّائغ، إذ يتحدث عن أهمية رياضة الأبدان، ويوضّح الفرق بين القويِّ بُنيةً والضعيف السَّقيم جسماً؛ فيقول:

شَتّانَ بينَ صَحِيحٍ ما بهِ سَقَمٌ *** وبَينَ مُضنىً بِحَدِّ السُّقمِ مُنقرِض
وبينَ مَن رَاضَ جِسماً ذابَ من قَشَفٍ *** وبينَ ذِي رَفَهٍ راضٍ بهِ ورَضِي
إنَّ الضَّعيفَ لَيَقتاتُ البُقولَ بَلِ الـ *** قَويُّ يأكُلُ كَلَّاً غَيرَ مُعتَرضِ
فحِميةُ المرءِ في إِبَّانَ صِحَّتِهِ *** بَمعرِضِ الطِبِّ كالتَّغليظِ في المَرَضِ

وحَقٌّ ما يقول؛ فالفرق شاسعٌ وكبيرٌ بين مَن راض جسمه وعوَّده التقشّف والتّمرّن، وبين مَن أَلِفَ الرّاحة والدَّعَة في العيش، لذلك لا بدّ من ترويض الأبدانِ وصقلها فهي الحصن المنيع الذي يحمي الإنسان أوّلاً، ويحمي الأوطان، ويترك لدى النَّاظرين والمُتربِّصين صورةً ذهنيّةً مَهِيبةً قادرةً على إيقافِ أيّ طامع أو عُدوانٍ.

شارك: