نابولي.. شمس مارادونا تشرق من جديد..!

تحديثات مباشرة
Off
2023-06-09 20:27
جدارية أسطورة الأرجنتين ونابولي دييغو أرماندو مارادونا من أحد شوارع مدينة نابولي (Getty)
محمد العولقي
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

حاولوا أن تغمضوا أعينكم، وتخيلوا معي المشهد الهيتشكوكي التالي: بينما يرفع دييغو أرماندو مارادونا درع الدوري الإيطالي في ليلة حارة من شهر مايو عام 1990، يكون لوتشانو سباليتي لحظتها تلميذًا يتلقى دروسًا تأهيلية في علم التدريب.

وبينما يقوم مارادونا نفسه بتقليب الدرع بين يديه بحس شاعر لآخر مرة، تحيك المافيا في مدينة الجنوب الإيطالي مؤامرة تنتهي بالقضاء على مُلهِم نابولي الذي شغل الناس وشغل الدنيا لسنوات، وكأنه مُتنبٍّ فريدٍ في عالم كرة القدم. 

لا يمكنك أن تتخيل المشاهد الدرامية التي عصفت بنابولي بعد رحيل مارادونا، ليس لأن الساحر الأرجنتيني كان نبض مدينة نابولي ومذنبها الذي يأتيها بالأفراح والليالي الملاح فحسب، لكن لأن مارادونا بنصف فريق تقريبًا أسقط جبروت يوفنتوس وعظمة الميلان وشراسة روما وقوة الإنتر.

على مقربة من أكاديمية الأشبال يتهامس الصغار عن آخِرِ لحظةِ فرحٍ عاشتها مدينة نابولي برفقة ساحرها مارادونا، لم يروا دييغو قط على الطبيعة، لكن أحدهم يفتش في جواله عن حركة (رابونا) المارادونية التي أتحف بها ملعب سان باولو سابقًا ومارادونا حاليًا، ولم تبارح ذاكرة المدينة قط، لأنها بالفعل كانت آخر لقطة منعشة، بعدها أعلن الحجز عن الفرح مع إسدال الستار على عصر العبقري دييغو.

والآن أعزائي القراء، افتحوا أعينكم! وطالعوا قصاصة الورق الإخبارية القادمة من أقصى الجنوب الإيطالي: نابولي يتوج بقلب الإسكوديتو قبل خمس جولات على نهاية الدوري الإيطالي.

إعلان عاطفي صارخ ليس كأي إعلان بالنسبة للكهل سلفاتوري مجنون نابولي، والمتيم بأمجاد وتراث الساحر مارادونا.. ليلة الرابع من مايو 2023 وعقب انتزاع نابولي لنقطة التتويج من بين أنياب أودينيزي، قفز سلفاتوري في الهواء قفزةً بهلوانيةً، لم يَدرِ كيف فعلها، وقد تحدب جسده الذي يكتنز 73 عامًا.

ركض سلفاتوري من منزله إلى ملعب (دييغو مارادونا) قاطعًا سبعة كيلومترات في زمن قياسي، وعندما اقتحم الملعب، وقد تحول سقفه إلى نافورة من القزاحيات الليزرية، تساءل ضاحكًا: كيف فعلتها؟!

يقول سلفاتوري وهو يحتضن نجله الشاب دييغو عن تلك اللحظة: "شعرت أن مارادونا يناديني، هرولت مسرعًا دون وعي، الغريب أنني لم أشعر بأي تعب أو إرهاق، ولحظة تسجيل النيجيري فيكتور أوسيمين هدف التعادل في مرمى أودينيزي، شعرت بطاقة هائلة تسري في دمي وحيوية مباغتة تدب في أوصالي، كما لو أن هرمون الأدرينالين انفجر في خلايا جسدي بغتة، ركضت بسرعة العداء الجامايكي بولت، كنتُ لحظتها كأي عدّاء يريد أن يصل إلى خط النهاية في زمن قياسي".

يرقص الكهل سلفاتوري برفقة نجله الذي أسماه دييغو تيمنًا بمارادونا وهو يُغنّي مردفًا: "أقسم أنني رأيت مارادونا يعتلي السقف، وكأنه شمس تشرق من جديد على رقعة مياهنا الجوفية، رأيته كعادته يرقص ويغني: تحيا نابولي".

ولم يكن سلفاتوري هو الوحيد الذي فقد صوابه ليلة القبض على لقب الإسكوديتو للمرة الثالثة في تاريخ النادي، والأولى منذ خروج مارادونا مدانًا بتهمة تعاطي المخدرات عام 1991، لقد فقدت مدينة نابولي صوابها وكأن بركان (فيزوف) الشهير قد ثار قاذفًا بحممه في كل مكان.

والآن وبعد أن أمسك النابوليتانيون بفيروز الدوري الإيطالي بعد جفاف دام لأكثر من 33 عامًا، يشعرون بأن هذا اللقب هو خير تأبين للراحل مارادونا.

يقول المبدع صاحب أصعب وأطول اسم في ملاعب كرة القدم الجورجي (خفيتشا كفاراتسخيليا) عن اللحظة الراهنة: "لطالما كان دييغو ملهمنا ومعلمنا، كنا نضعه نصب أعيننا، نلعب لإحياء أمجاده، تعاهدنا على أن نمنح دييغو لقبًا جديدًا كي يرتاح في قبره".

وعندما تمكن أخيرًا المدرب المحارب لوتشانو سباليتي من مسح غبار الرفوف عن 33 سنة انتظار وعذاب، لم يعد بوسع مدينة نابولي مقاطعة الأفراح والأعراس العاطفية الملتهبة، فقد انتهى عهد الفراق وحان موعد قطف ثمار الرفاق. 

وإذا كان عشاق نابولي قد عاشوا طوال تراكمية 33 سنة على بقايا صبر؛ فإنهم الآن يغنون للفارس الشطرنجي الجديد (سباليتي) الذي حقق معجزة الخروج من لعنة دييغو، تلك اللعنة التي بدت وكأنها تلبست المدينة منذ أن غدرت المافيا بملكها المتوج على كل قلوب النابوليتانيين، دييغو مارادونا.

وأبدًا لا يمكن أن يشكل فوز هذا الجيل بلقب الدوري الإيطالي بعد انتظار طويل عائقًا أمام عظمة مارادونا، على اعتبار أن الأندية الإيطالية في زمن دييغو كانت قوية وزاخرة بالنجوم الأفذاذ، حتى أن الفنيين والمحللين كانوا يطلقون على الدوري الإيطالي أنه بطولة كأس عالم مصغرة، بالنظر إلى دلالات وقيم النجوم الذين كانوا يصنعون ربيع (الكالتشيو) من طراز ميشيل بلاتيني وكارل هينز رومينيغه والكيار لارسن وهانز بيتر بريغل ومارك هاتيلي وفان باستن ورود خولييت والقائمة تطول.

وعندما صنع سباليتي فريقًا جماعيًّا متماسكًا يدور في فلكه كمدرب صاحب نهج وفلسفة، أدرك أنه لا قيمة لانتفاضةٍ لا تزلزل الملاعب تحت أقدام الأندية القوية ما لم يثر الفريق كبركانٍ في مدينة تشتهر أصلًا بالبراكين النشطة والخاملة.

وعندما أدرك سباليتي أن أمجاد مارادونا لا يمكن أن تبقى استثناءً طويلًا في مدينة كروية الهوى حتى النخاع، قرر أن يخوض موسمًا حازمًا حاسمًا بحجم التحدي.

لقد كان سباليتي يعلم تمامًا أن أيام مارادونا الخوالي في نابولي يمكنها أن تكون دليلًا وخريطة طريق جديدة لرحلة استثنائية مليئة بدراما الشهد والدموع، تضع اللقب المستعصي على المحك، لذا قرر سباليتي بعتاد معنوي مخاصمة النجاحات العادية والعودة إلى التميز المارادوني الذي يشعل كل مساحات الضوء.

بدأ نابولي رحلة إحياء تراث مارادونا بطريقة فيها من الاستماتة والتضحيات ما حفّز اللاعبين على الحفاظ على النسق التصاعدي في النتائج، وظل الفريق من جولة إلى أخرى يطلق الرعد ويثير الرعشة ويزرع المخاوف في قلوب مطارديه حتى نجح مع مرور الوقت من خلخلة أحلام المنافسين والإجهاز عليهم دون الاستعانة بأي مشاهد هيتشكوكية.

تحول نابولي مع كتيبة سباليتي إلى جلاد لا يتنازل عن "الكرباج"، وظلت رغبته الجامحة في إحراز اللقب تتناسل جولة بعد أخرى، وتتنامى من مباراة إلى أخرى بشكل خرافي، لذا كان دائمًا يتحاشى التفريط في النقاط، وكان حريصًا على أن يخرج في أحلك الظروف وفي أصعبها وأشدها قتامةً بأقل الأضرار وبنقطة التعادل كأضعف الإيمان. 

نعم، هرمنا بانتظار هذه اللحظة التاريخية التي شكلت مفترق طرقٍ بين زمن ساد ثم باد بقيادة الأسطورة مارادونا، وزمن جديد لم ينكث سباليتي وعده وصنع أخيرًا الحدث الكبير، ممررًا رسائل مُثقَلة بالتحذير ومحشوة بالتحدي.

من دون شك استطاع سباليتي بلاعبين متجانسين ومستعدين للتضحية أن يقدم للعالم فريقًا شرهًا وجائعًا يضع زمان وصل مارادونا نصب عينيه، لذلك تحول نابولي بعد رهان ماراثوني إلى فريق استثنائي وبطل فوق العادة.

شارك: