منتخب المغرب.. سعادة فوق العادة!

2022-12-07 23:23
المنتخب المغربي يفوز على المنتخب الإسباني بجدارة (Getty)
محمد العولقي
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

بلوغ المنتخب المغربي ربع نهائي كأس العالم قطر 2022 على حساب منتخب إسبانيا المدجج بالنجوم ليس مفاجأة، ولا رمية من غير رام، فالإنجاز المغربي كان يلوح في الأفق قبل موقعة ملعب المدينة التعليمية.

كان الحافز عند كتيبة المدرب الوطني وليد الركراكي في أعلى مستوياته، وقد لاحظتُ ذلك من خلال الإعداد النفسي للاعبين من طرف المدرب والجهاز الإداري، والنتيجة أننا عشنا مخاض ملحمة مغربية خالدة تناغمت فيها كل عناصر النجاح، من طريقة اللعب التي وضعها المدرب إلى تنفيذها بحذافيرها على أرض الملعب من قبل اللاعبين، وانتهاء بالمؤازرة المعنوية الرهيبة من قبل الجماهير العربية والمغربية.

أبدع الركراكي عندما حوّل المباراة مع خبرة لاعبي إسبانيا وحيويتهم من معركة بدنية وفنية إلى معركة نفسية، تتأسس على تدفق هرمون الدافع عند اللاعبين المغاربة، والنتيجة أن عيوننا تكحلت برؤية منتخب واقعي يلعب وفق قدرات لاعبيه من دون أن يتهيب صعود قمة جبل المفاجأة.

وطالما أنا أزعم أنني دارس لشاكلات اللعب ومغرم بمتغيراتها وأساليبها، فمن الواجب ألا أبخس حق الركراكي فهو مدرب ذكي يتلوّن تكتيكيا من مباراة إلى أخرى، فيصيب منافسه بحيرة عندما يفك طلاسم تكتيكه، ويربك كل حسابات الخصوم.

وعندما شمّع الركراكي منطقة جزاء الحارس العنكبوت ياسين بونو بالشمع الأحمر، كان قد تحول بالفعل في نظر مدرب منتخب إسبانيا لويس إنريكي إلى طبيب فرعوني، فقد حنط كل فنيات لاعبي إسبانيا، وشل قدراتهم ومؤهلاتهم التقنية، فتبخرت خطورتهم كخيط دخان.

حتى الذين أزعجتهم طبيعة هذه الجمركة الدفاعية المغربية، اعترفوا بأن الركراكي لجأ إلى الطريقة المثالية التي من خلالها عرف كيف يأكل كتف (الماتادور) الإسباني، من دون أن يُلحق ضررا بالواجهة الهجومية التي خلقت مرتداتها مشكلات للدفاع الإسباني لا حصر لها.

وإذا كان الركراكي قد استخدم ورقة سفيان أمرابط لتكسير رتم المنتخب الإسباني والتشويش على بنائه الهجومي، فذلك لأن سفيان يمتلك لياقة ذهنية خارقة للعادة، لا تقل عن لياقته البدنية العالية، فبدأ من خلال ابتلاعه لكل المساحات كمن قفل على (الماتادور) الإسباني في مغارة مغربية بالفلين العتيق، وهرب بكل المفاتيح.

من يحلل طريقة أداء المنتخب المغربي التي حجّمت قدرات لاعبي إسبانيا وفرضت عليهم انكماشا سلبيا لا يتعدى عتبة منطقة الجزاء المغربية، سيكتشف أن الركراكي أقام في الوسط جمركا مغربيا حاصر من خلاله كل آليات الإقلاع الإسبانية، ففي مرات كثيرة كان سيرجيو بوسكيتس ينسل مجزوعا أمام غابة من الأرجل المغربية، لدرجة أن المهاجم ألفارو موراتا كان يجازف بمداهمة عرين الأسود ليوصل فقط وصيته الأخيرة الباردة.

ربما بدا لكم أن الاستحواذ الإسباني كان كبيرا في نسبته المئوية، وربما تخوّفتم لبعض الوقت من (التيكي تاكا) الإسبانية، لكن كل هذا لم يشفع لأنريكي؛ لأن عملية النبش ظلت صغيرة وبدون خطورة إلا في مناسبة واحدة مع نهاية الوقت الإضافي الثاني، وما كان لمنتخب إسبانيا تقديم (تيكي تاكا) عرجاء لولا صلابة خطي الوسط والدفاع المغربيين.

وإذا كانت مناورة الركراكي التكتيكية تقوم على مبدأ الانكماش دفاعيا عند فقدان الكرة والتمدد هجوميا عند امتلاكها بحذر ودون تهور، فإن خاصية المرونة التكتيكية أسهمت إلى حد بعيد في حفاظ اللاعبين على طراوتهم البدنية، بدليل أن تركيز اللاعبين في ركلات الترجيح كان مرتفعا بعكس لاعبي إسبانيا المنهكين نفسيا، وهذا يؤكد أن الركراكي أعد العدة جيدا، وحسب حسابا لكل حالات الطوارئ بدنيا ونفسيا.

وعندما اعتمد الركراكي تكتيك العمود الفقري الأفقي عند ممارسة المضادات الهجومية (الكونترا تاك)، فلأنه كان يراهن على القزاح المائل، من ياسين بونو وساسي وأمرابط إلى أشرف حكيمي وحكيم زياش والنصيري.

خط أفقي مائل، لكنه كان العمود الفقري الذي يكسر كل أسطوانات لاعبي إسبانيا، ويبث في قلوبهم الرعب من المجازفة بالاندفاع دون حماية ظهر الدفاع بكتيبة تبطل مفعول هذا "القزّاح المائل" الذي أحسن تخفيف الضغط على دفاعه بمرتدات مزعجة تنفس معها الدفاع المغربي الصعداء.

سألني التلفزيون المحلي قبل المباراة عن رؤيتي الفنية للمباراة، وكيف سيلعب المنتخب المغربي مباراة العمر متفاديا الفوارق الكبيرة عن منتخب إسبانيا؟ 

قناعتي كانت تؤكد أن الركراكي سينصب للاعبي إسبانيا مشنقة دفاعية متعددة الاتجاهات والأبعاد للحصول على التعادل التكتيكي، بعدها تبقى عملية ممارسة المرتد الخاطف تخضع لقدرة لاعبي الوسط على خلخلة المساحات ومنح الرواقين والعمق الكرات الملغومة والمؤطرة.

وفي وقت كان أمرابط يقدم نفسه على أنه قطعة غيار تكتيكية لا غنى عنها، كان في الواقع يخرّب البناء الإسباني في العمق ويلغي امتيازاته، ومن ثم يتلوّن داخل الملعب ويحوم في كل مربعاته كالفراشة، في الوقت نفسه كان زياش بمهاراته وثقته في نفسه يلدغ الدفاع الإسباني إما باختراق خاطف أو بتمريرات حريرية كادت تباغت الدفاع الإسباني وتمنح المغرب التقدم في أكثر من مناسبة.

والآن وقد بات المنتخب المغربي قاب قوسين أو أدنى من كتابة تاريخ مجيد، والظروف مهيأة لتغيير مجرى الأرقام، وجب على لاعبي المنتخب المغربي طي صفحة مباراة ثمن النهائي أمام إسبانيا بكل صخبها وإثارتها وحلاوتها وأفراحها، والتركيز على مباراة الأحد أمام البرتغال في الدور ربع النهائي. 

ولأن كرة القدم غدارة ونتائجها دوارة وطقوسها متقلبة من مباراة لأخرى، فمن الأجدى للاعبي المغرب التركيز التام على الموقعة المرتقبة، ونسيان أفراح الفوز على إسبانيا بركلات الترجيح أو على الأقل تأجيلها.

ومن الأهمية بمكان الخروج فورا من صخب كل تلك الاحتفالات بالسرعة القصوى، فالشاطر من يتواضع عند النصر ولا يغتر به طويلا، ومن المناسب تجديد الدوافع المعنوية ورفع أسهمها في بورصة العوامل النفسية، فمنتخب ناضج ومتكامل الخطوط مثل البرتغال لن يسقط في فخ التعليب النفسي المغربي ما لم تكن الحوافز في مستوى التحديات، ودائما التوكل على الله أساس كل إنجاز يا أسودًا كنتم للسعادة سفراء فوق العادة.

شارك: