كليان مبابي.. صداع في رأس إنجلترا ..!

2022-12-10 18:48
اللاعب الفرنسي كيليان مبابي (Getty)
محمد العولقي
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

قال الكاتب الروائي جوليان بارنز ذات يوم مقولته الشهيرة: لو كنت تمتلك القدرة على اختراع أمة تزعج البريطانيين، لربما كانت هذه الأمة هي فرنسا.

هذه المقولة الخالدة التي تلخص حجم العداء التاريخي بين البلدين غير المتحابين سياسياً قفزت إلى ذهني دفعة واحدة نظراً للحمى الإعلامية  المصاحبة للمباراة المرتقبة بين المنتخبين الفرنسي و الإنجليزي برسم الدور ربع النهائي لبطولة كأس العالم قطر 2022.

بدون مبالغة ليس هناك إنجليزي واحد كان يتمنى مواجهة المنتخب الفرنسي في مباراة لا تعترف بأنصاف الحلول، ليس لأن المنتخب الفرنسي قوي ومتكامل وصاحب كعب عال على الإنجليز كرويا، ولكن لأنها مواجهة حارقة ومصيرية تستدعي كل التراكمات السياسية التي باعدت بين ضفتي بحر المانش.

و من غرائب هذا العداء بين ذوي الدماء الباردة و من يدعون أنهم من ذوي الدماء الحارة أن الإنجليز بالذات لا يريدون من كأس العالم الحالية سوى تسجيل انتصار على الفرنسيين، وبعدها لا تهمهم هوية الفائز بمونديال قطر.

العداء التاريخي بين فرنسا و إنجلترا سينتقل هذه المرة من الملعب السياسي إلى الملعب الكروي، في صدام مونديالي مبكر أتاح فرصة النفخ في كير مخلفات الماضي، و هو أمر يضع المباراة بالفعل على صفيح ساخن.

الفوز هذه المرة لا علاقة له بألسنة السياسيين، ولكنه معلق بأقدام اللاعبين داخل الملعب، وبالحرب التكتيكية الصعبة بين ديديه ديشامب و غاريث ساوثغيت خارج الملعب، حرب ذكاء أقرب لرقعة الشطرنج منها إلى المستطيل الأخضر، و الشاطر هو من يتقن اللعب بذكاء و يقضي على خصمه بالنقلة الرهيبة (كش ملك).

والحقيقة أن الإنجليز بهذا الجيل الموهوب يمتلكون منتخبا متوازنا وناجعا وشرسا، إلا أنهم يخشون المنتخب الفرنسي كثيرا، ويحسبون له مليون حساب، على الرغم من غيابات المنتخب الفرنسي ونوعية لاعبيه الاحتياطيين الذين لا يقارنون بأي حال من الأحوال بجودة احتياطيي المنتخب الإنجليزي. 

وعندما يبدأ الحوار التكتيكي داخل استاد (لوسيل) التحفة سيصبح الحديث عن الأخطاء الفردية مجرد استهلاك لشعار: الحذر كل الحذر من الجزئيات الصغيرة التي لا يستطيع ديشامب ولا ساوثغيت تفاديها، ما لم يصل تركيز كل لاعب داخل الملعب إلى 3000%.

وبقراءة متأنية لحظوظ الغريمين اللدودين فرنسا وإنجلترا تبقى كل التصورات خاضعة لحسابات ورقية قد يخفي رمادها نارا مستعرة بين المدربين، وتبرز في صورة تعديل فني أو تكتيكي يغير معطيات ومجريات المباراة ويقلب أحداثها رأسا على عقب. 

بالضبط ليس على المرء إلا أن يكون مغامرا لكي يتجرأ على الدخول في مغارة المباراة من الناحية التكتيكية، فمثل هذه المباراة يلعب فيها العامل النفسي دورا رئيسيا في فرض ما يعرف بمصطلح الثبات الانفعالي.

وفي يورو 2004 بالبرتغال خسرت إنجلترا أمام فرنسا في دور المجموعات بهدفين متأخرين سجلهما النجم الخبير زين الدين زيدان في ظرف دقيقة واحدة، نقلا الديكة الفرنسيين من خانة الخسارة أمام الأسود الثلاثة إلى فوز دراماتيكي صاعق ومثير.

وقتها لم يتورع مهندس عمليات وسط المنتخب الإنجليزي ديفيد بيكهام عن الاعتراف بأن اللياقة النفسية كانت العامل الأهم الذي ساهم في فوز المنتخب الفرنسي، وكان مصطلح اللياقة النفسية في ذلك الوقت جديدا تماما على الصحافة الإنجليزية.

ولأن ديشامب كان وقتها يراقب تلك المباراة من المنصة الشرفية بعد اعتزاله دوليًا، فإن عامل اللياقة النفسية أصبح بالنسبة له الوحي الذي يلغي الفوارق ويعوض النقص الحاد فيما يعرف بالوعي التكتيكي. 

وعندما تطأ أقدام لاعبي فرنسا أرض الملعب لتحديد المصير أمام منتخب إنجلترا القوي سيكون اللاعبون قد هضموا تماما مبدأ اللياقة النفسية، وسيتجسد بوضوح من خلال نمطية الرقابة الصارمة لمفاتيح لعب المنتخب الإنجليزي، وفي ممارسة عراكية كاملة مع الضغط المتواصل على الوسط الإنجليزي بهدف شل قدرات اللاعبين الفنية و المعنوية وتصدير الشك إلى قلوبهم قبل أقدامهم. 

وإذا كان التأطير النفسي هو سلاح ديديه ديشامب في ترويض الأسود الإنجليزية، فإن غاريث ساوثغيت مدرب إنجلترا يراهن على الهيكل التنظيمي كثيرا، ولكن هذا الهيكل الذي أثبت فعالية غير مسبوقة أمام منتخبات إيران وويلز والسنغال قد يتصدع والسبب بطبيعة الحال السهم كليان مبابي.

* يرى ساوثغيت أن الحد من خطورة كليان مبابي طوال 90 دقيقة مسألة مرهقة للغاية، لأنها تحتاج إلى عتاد ذهني من نوع خاص، كما أن الانشغال عن منتخب فرنسا باختزاله في مبابي مسألة أيضا خطيرة قد يدفع ثمنها ساوثغيت من حيث لا يدري.

ويعتقد ساوثغيت أن كايل ووكر فتى مانشستر سيتي السريع هو اللاعب المثالي الذي يمكنه تحجيم كليان مبابي ومنعه من التنفس في منطقة جزاء بيكفورد، ولكن مثل هذه المهمة يحتاج إلى تعديل في آليات اللعب الخلفي، و لا يستدعي بالضرورة تغييراً في طريقة أو أسلوب اللعب.

وستفرض على مبابي رقابة عمودية وأفقية من الرواق المائل و من محاور الوسط، في محاولة لحماية ارتكازيّ الدفاع البطيئين جون ستونز و هاري ماغواير.

ترى كيف يستطيع ديديه ديشامب تحرير كليان مبابي من الحقل المغناطيسي الإنجليزي والمحافظة على طراوته النفسية؟

من دون شك يعلم ديشامب ما ينتظر مبابي من أهوال أمام دفاع لا يرحم، و بالتالي فإن التحايل على الإنجليز بوضع مبابي مجرد طعم و قنطرة عبور لعثمان ديمبلي وأوليفييه جيرو وحتى أنطوان غريزمان يمكن أن يحدث شرخا في المنظومة الدفاعية، وبالتالي تنهار تماما نظرية الحقل الكهرومغناطيسي التي ينوي ساوثغيت انتهاجها لإيقاف القطار الفرنسي السريع.

الصداع الحقيقي الذي يضرب رأس ساوثغيت يتعلق بنوعية كليان مبابي وسماته المختلفة، فهو ليس مجرد لاعب رواق يمكن تجريده من سرعته بتضييق المساحات ومحاصرته (رَجُلٌ لرجل)، كما أنه ليس رأس حربة تقليدي يمكن اعتقاله ونفيه وسجنه ومحاصرته، ولكنه لاعب زئبقي يصلح لكل حالات التموضع التكتيكي الذي يحرره من كل رادارات الرقابة. 

بمنتهى البساطة خطورة كليان مبابي ليست في سرعة انطلاقاته، ولا حتى في تسديداته المؤطرة على المرمى، ولا حتى في تحركاته الدؤوبة والدائمة فقط، ولكن خطورته الحقيقية تتجلى في أنه لاعب يمتلك وعيا تكتيكيا ناضجا، فيأتي بالحلول من حيث لا يتوقع الخصم، ويحسم المباريات من مناطق ليست في حسبان جلاديه.

حسنا ما هي المزايا التي يتمتع بها كليان مبابي وتجعل مسألة الحد من خطورته نهائيا مستحيلة؟

من دون مقدمات يستطيع كليان مبابي التلون مع كل مقتضيات الوعي التكتيكي، إذا تحول إلى الوسط يصبح صانعا للألعاب وممهدا لزملائه في الهجوم، فهو قادر على إرسال تمريرات دقيقة بالملي متر في رمشة عين، وهو أيضا مناور بارع يستطيع في تنهيدة تجاوز ثلاثة مدافعين بسرعة البرق، كما أنه يقذف الكرات كالسم الزعاف من دون أن يكشف عن نواياه، وأخيرا هو لاعب فنان يختصر المسافات ويرسل تمريرات حاسمة تحرر زملائه من الرقابة.

يتمنى ديديه ديشامب أن يبالغ الإنجليز في خوفهم وذعرهم من كليان مبابي، لأن التفكير في كليان وحده والانشغال بطرق إيقافه قد يمنح الفرنسيين بطاقة التأهل لنصف النهائي من حيث يدري ساوثغيت أو لا يدري.

شارك: