رسائل الهويّة وتدافُعها في كأس العالم

2022-11-25 15:07
افتتاح بطولة كأس العالم كان بصورة أبهرت العالم بكل تفاصيله التصميمية (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

مشحونةً بالرّمزيّات جاءت كأس العالم التي تحتضنها قطر، ومسبوقة بالهجمات التي لا علاقة لها بالرّياضة، اتّسم هذا الموسم الفريد للبطولة التي تستضيفها للمرّة الأولى دولةٌ عربيّة، ومسبوقةً بالمباريات خارج المربّع الأخضر، كان التدافع الثّقافيّ والهويّاتيّ أحد أبرز عناوين البطولة.

عقدة الرّجل الأبيض

من أهمّ ما كشفته هذه البطولة أنّ شعاراتِ المساواة والأخوّة الإنسانيّة التي صرعت بها الدّول الغربيّة رؤوسنا هي شعاراتٌ قابلةٌ للتطبيق في حيزاتٍ جغرافيّة وثقافيّةٍ وسياسيّةٍ خاصّة؛ فحيثما توجد البشرة البيضاء والعيون الملوّنة والشّعر الأشقر يكون من حقّ هذه المجتمعات والدّول أن تثبت كفاءتها وتتباهى بنجاحاتها وتحظى بالمساندة التي طالما لبست ثوب "البريستيج" الإنسانيّ والأخلاقيّ.

لم يحتمل العقل الأوروبيّ أن تحتضن دولةٌ عربيّةٌ صغيرةُ المساحة من بلدان العالم الثالث هذه البطولة وتثبت نفسها، ولم يحتمل أصحاب البشرة البيضاء أن ينجح أبناء البشرة الدّاكنة في تنظيم وترتيب حدثٍ عالميّ؛ فبدأت السّهام تتوجّه وحملات الهجوم التي لا تخفى على أيّ متابع أنّها تخفي وراءها وجهًا عنصريًّا قبيحًا، ويستطيع كلّ مَن يسمع بها أن يشمّ نتن التعالي الذي يزكم أنوف أهل الفطرة السليمة.

مواجهةٌ هويّاتيّة مبكّرة

مع اقتراب موعد البطولة؛ وبعد أن شعرت الدول التي حاولت إفشال البطولة بخيبة المسعى؛ بدأت حملةٌ جديدةٌ في محاولةٍ لفرضِ نموذجٍ هويّاتيّ غريبٍ عن بلادنا، وبدأت معركة الرموز المثليّة من الشارات والشّعارات والرّايات، وعندما أعلنت قطر والفيفا أنّها تحترم ثقافات الشّعوب ولن تسمح بما يتناقض مع ثقافة المجتمع العربيّ والإسلاميّ الذي تنتمي إليه الدّولة المضيفة؛ وأنّ شارات المثليّة وشعاراتها غير مسموحٍ بها في الملاعب والشوارع القطريّة، فَقَدَ أصحاب العرق الأبيض صوابهم، وما زالت المواجهة مستمرّة في هذه المدافعة الهويّاتيّة.

وقبل انطلاق البطولة بيومين فقط سدّدت الدّولة المضيفة ركلةً أصابت شباك الدّول المغتاظة؛ فأصدرت قرارًا بحظر بيع المشروبات الكحوليّة وتناولها في الملاعب وحولها ممّا زاد في حدّة المواجهة التي أخذت أبعادًا أخرى لا علاقة لها بالرياضة أو بالروح الرياضيّة من قريبٍ أو بعيد.

حفل الافتتاح الحافل بالرّمزيّات

جاء حفل الافتتاح الذي شهده العالم للبطولة التي تترقبها أعين مئات الملايين من البشر في مختلف أصقاع المعمورة حافلًا بالرسائل الثقافيّة وزاخرًا بدلالات الهويّة التي تنتمي لها الدّولة المضيفة.

كان الافتتاح في ستاد "البيت" المصمّم على شكل خيمة، ليقول المضيفون للعالم: هذا بيتنا الذي يتسع لكم جميعًا، وهذه الخيمة التي طالما كانت مثار تعليقاتكم الساخرة تحتضنكم اليوم وتتسع لكلّ ثقافاتكم.

في حفل الافتتاح برزت الإبل والهودج والسّيف والخنجر والثوب العربيّ داخل الملعب المصمّم على شكل بيت الشّعر؛ هذه المكونات التي كانت على الدوام مرتكزات السينما الغربيّة وكاريكاتير العرق الأبيض للسخرية من الإنسان العربيّ والهجوم عليه؛ تحضرُ في حفل الافتتاح في سياقٍ معاكسٍ تمامًا للسياق التجييشيّ الغربيّ، سياقِ تأكيد مكانتها الثقافيّة عند البلد المضيف.

في حفل الافتتاح يوضع الأذان قبيل البدء، وتبرزُ المرأة العربيّة القطريّة مرتديةً عباءتها ونقابَها، هذه العباءة والنقاب الذي لم يسلم يومًا من استخدامه للدلالة على قهر المرأة في البيئة الإسلاميّة؛ نراه يحضرُ في افتتاح أكبر حدثٍ رياضيّ يتابعه النّاس في رسالةٍ بالغة الوضوح لا تخفى إلّا على العين التي أرمدها الحقد.

وفي حفل الافتتاح كانت لوحة الحوار بين الفتى المبدع غانم المفتاح والفنان العالميّ المشهور مورغان فريمان زاخرًا بمعاني الحبّ للبشريّة وإرادة الخير لها، وجاء تتويجه بتلاوة آية التعارف، وهي قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" في رسالةٍ واضحة تفيد بأنّ اجتماع النّاس في هذه البطولة من كلّ الأعراق والألوان والأديان فرصةٌ لتحقيق التعارف الحضاريّ الذي يدعو إليه الإسلام دون استعلاءِ أحدٍ على أحد.

في هذه البطولة تعرّى كثيرٌ من القيم التي كانت تكتسي ثوب الحضارة وحقوق الإنسان، وتهاوت دعاوى كثيرةٌ عن التعدّد الثقافي، وفي المقابل برز نموذج أخلاقيّ لا يفرض هويّته على الآخرين؛ لكنّه لا يقبل بالمقابل أن ينسلخ عن هويّته إرضاءً لهؤلاء الآخرين.

شارك: