جمال المبنى والمعنى في لفظ الرّياضة

2023-01-29 12:36
لقطات لممارسة رياضة كرة القدم في أماكن متنوعة حول العالم (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

الرّياضة معشوقة الجماهير من مرحلة الطّفولة مرورًا بالشباب والكهولة إلى مرحلة الشّيخوخة، ولا تجدُ أحدًا في المجتمع إلّا ويجري لفظها على لسانه، فهل توقّفتَ عند اللّفظ وأطلت النّظرَ في مبناه ومعناه لتعاين ما يزيده حبًّا في النَّفسِ وقربًا.

دعني أخبرك ابتداءً أنّ معرفة معنى اللّفظ في العربيّة تحتاج منك أن تعود إلى معاجم اللّغة، ولعلك تذكر أنّك حين كنت في المرحلة الدّراسيّة المتوسّطة تدرّبتَ وتمرّست على كيفيّة استخراج معاني الكلمات من المعاجم المختلفة التي تأخذ بأوائل الكلمات أو تلك التي تأخذ بأواخرها، وقد كانت الخطوة الأولى لاستخراج معنى أي كلمة هي إعادتها إلى جذرها الذي نبتت وتفرّعت منه.

"رَوَضَ" هذا هو الجذر الذي تفتّحت منه براعم لفظة الرّياضة وتفرّعت منه أغصانها، فماذا تقول معاجم اللّغة عنه؟

جاء في معجم مقاييس اللّغة لابن فارس: "رَوَضَ: الرَّاءُ وَالوَاوُ وَالضَّادُ أَصْلَانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْقِيَاسِ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى اتِّسَاعٍ، وَالْآخَرُ عَلَى تَلْيِينٍ وَتَسْهِيلٍ"، فأصل الرّياضة في اللّغة إذن يعود إلى معنيين رائقين؛ أوّلهما الاتّساع، وثانيهما التّليين والتّسهيل؛ فإذا ما جئنا إلى معنى الاتساع فإنّ في الرّياضةَ كثيراً ممّا يشعر به المرء من روح الرّياض والنّضرة وامتداد الأفق فيها واتّساع الجمال وبهاء المشهد في البساتين الخضراء الممتدة المتكئة على كتف نبعٍ صافٍ أو نهرٍ جارٍ بماءٍ عذبٍ يرتوي منه الظمآن غدوةً وعشيّةً.

والاتساع خروجٌ من الضّيق ونفاذٌ إلى فرجٍ عريض، وهو ما تتوق إليه نفس الإنسان أينما كان، ويجده في الرياضة ممارسةً ومتابعة، فمن يمارس الرّياضة تتسع مداركه، وتَتَبَلْوَرُ قدراته، وتَتَجَوْهَرُ أخلاقه، وتطيبُ نفسه فتتّسعُ علاقاته، ويستشعر بقوّته البدنيّة، وقد يصل الأمر لدى بعض الرياضيين إلى اتّساع الرّزق فتكون الرياضة باب ثراء للمرء وسعة في رزقه.

وأمّا متابعو الرّياضة ومشجّعو فِرَقِها فإنّهم يعيشون جمال الاتّساع ومتعته حين يشاهدون المباريات أو السباقات أو التحدّيات المتنوعة، كلٌّ حسب نوع الرّياضة الذي يستهويه فيتابعه ويتعقّب آخر أخبار لاعبيه المشهورين وأبطاله وإنجازاتهم، ويصل الأمر لدى المشجعين إلى تتبّع ممارسات اللاعبين في حياتهم الخاصة أيضاً، وما ذلك إلا لأنهم يشعرون في أثناء المتابعة والمشاهدة والتتبّع بالمتعة والحماس كما لو أنّهم يسيرُون في رياضٍ خلّابة تُمتِع البصرَ وتُريح النّفس وتُحفّزها في آن واحد.

أمّا المعنى الثّاني وهو "التَلْيِين وَالتَسْهِيل" فهو ما نسميه "التّرويض"، ففي الرّياضة ترويضٌ للبدن وتحكّم به، وترويض البدن يكون بإجباره على ممارسة ما ينفعه فتلين حركته ويخفّ ثقله ويسهل تنقّله.

فالرياضة تقوم على ترويض البدن وإجباره على الحركة وإرغامه على ممارسة الرياضة، ففي ذلك نفعه وصلاحه، أمَّا إذا تُرِك الجسد براحته وأُفلِتَ له الحبل على غاربه ونال ما يشتهيه من ملذات وتُرك ليرتع في مراتع الكسل فإنّ في ذلك فساده، فالرياضة ترويض له على نبذ الكسل وتليين المفاصل وتسهيل الحركة، وفي هذا كلّ الخير له.

ولا تقتصر الرّياضة على ترويض البدن فحسب، بل فيها ترويض للنّفس أيضاً، ففي ممارستها تسكينٌ للنفسِ وتليين لها، وكبح لجماحها، وفيها فطامٌ لها عن الجموح اللامسؤول غير الرّاشد الذي قد يُودي بها إلى المهالك والمصارع، وفي الرياضة كبح للنفس عن اللّهو غير النّافع، والانشغال بسفاسف الأمور، ودفع لها نحو الانشغال بمعاليها والتركيز على النّوَال المستحقّ.

ولله درّ البوصيري حين تحدّث عن ضرورة ترويض النّفس وكبح جماحها في بُردته البديعة فيقول:

منْ لي بردِّ جماحٍ من غوايتهـــا *** كما يُردُّ جماحُ الخيلِ باللُّجُــــمِ
والنفسُ كالطفل إن تُهْملهُ شبَّ على *** حبّ الرّضاعِ وإن تفطمهُ ينفطــمِ
فاصرفْ هواها وحاذر أن تُوَليَــهُ *** إنّ الهوى ما تولَّى يُصْمِ أو يَصِـمِ

وفي الرياضة تربية للنفس في التعامل مع الآخرين أيضاً، فكما هذّبت النفس بترويضها وكبح جماحها، فإنها تحثّها على الاتّساع في التعامل مع الآخرين، وتُعينها على استيعاب ما يجري من حولها، وتُليّنها في التعاطي مع المواقف المختلفة، إذ يغدو المرء كلّما مارس الرّياضة -حقّ ممارستها- ليّنًا في تعامله مع النّاس، سهلاً طَيّبَ الأخلاق مع الخلائق، متسع الرّوح في احتمال فظاظتهم، وهذا -والله- هو عينُ ما يُطلقُ عليه "الرّوح الرّياضيّة"، فهذا المصطلح في ساحة اللّغة الرّياضية يعني "الرّوح الواسعة اللّينة السّهلة".

وهكذا هي الرّياضة في لفظها ومبناها ومعناها؛ اتّساعٌ وتليينٌ وتسهيلٌ، وجمالٌ كامنٌ في هذه المعاني التي تحقّقها الرياضة لمن يمارسها ومن يتابعها ومن يعيشُ تفاصيلها الجميلة ويستمتع بها.

شارك: