شاعر النِّيل مُعجَبًا بفريق الجزيرة

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-07-23 15:08
رياضة كرة القدم استحوذت على اهتمام الكثير من الشعراء والكتاب (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

هذه وقفة ثانية مع قصيدة شاعر النِّيل التي كتبها إعجابًا بفريق (الجزيرة) المصري، وقال في مطلعها:
بِنادي الجَزيرَةِ قِف ساعَةً    ***    وَشاهِد بِرَبِّكَ ما قَد حَوى

كُنَّا قد بدأنا بالاطِّلاع على هذه القصيدة والحديث عنها وتذوق جمال معانيها في المقال السابق، وسنكمل اليوم رحلتنا الشعرية في رِحابِها. لم يكن حافظ إبراهيم شاعرًا عاديًا، فاسمه في الأوساط العربية على اختلافها، الثقافية منها وغيرها؛ أَشهرُ من نار على علم، لا سيّما بعد أن لقّبه صديقه الشاعر الكبير المشهور أحمد شوقي بلقب (شاعر النِّيل)، ويدلّ ذلك على مدى إعجاب شوقي وتقديره لموهبة إبراهيم وقدراته الفنية الشعرية العالية، وإنّه لأمر مثيرٌ للإعجاب والدهشة في آن واحد؛ إذ قلّما نرى مُعاصِرَينِ يُشيدان بمَلكاتِ بعضهما؛ لكن الصداقة القويّة التي جمعت بينهما جعلت كُلًّا منهما مَحلَّ تقدير وإنصاف وموضوعية لدى الآخر.

كان حافظ إبراهيم مثل كثيرٍ من الرِّجال مولعًا بالرياضة وكرة القدم على وجه التحديد، ومن شدة إعجابه بأداء فريق (الجزيرة) نَظم فيه قصيدة عمودية على البحر المتقارب من خمسة وخمسين بيتًا، وجاء فيها بمعانٍ لطيفة وألفاظ سهلةٍ قريبة المَأخَذ، تُظهر مدى إعجابه من جهة، وحرصه على نقل الواقع الذي يراه بدون تزييف من جهة أخرى، وكأنه يريد بذلك أن يُقنِع مُتَلقّي قصيدته وسامِعيها وقُرَّاءَها بأن إعجابه بفريق (الجزيرة) لم يكن من فراغ، بل عن استحقاق وموضوعية.

ناهيك من أنه كان ينطلق في كتابته للشِّعر من مبدأ مَفادُه أن الشّعر يجب أن يُحاكي الواقع ويعكس ما فيه، ويؤمن بوظيفة الشعر التأثيرية في الجماهير، لذلك يجب أن تنطلق منهم ومن اهتماماتهم لتعود إليهم، ولعلّ هذا ما يفسر من جهة فنية عدم اعتماده على الخيال بكثرة في قصائده.

نكمل من حيث وقفنا في المقال الماضي، فالقصيدة تستحق الاستغراق في معانيها وتذوق جمال مبانيها ومعانيها على حدٍّ سواء؛ يقول حافظ إبراهيم:

وَيا رُبَّ يَومٍ شَديدِ اللَظى    ***    رَوى عَن جَهَنَّمَ ما قَد رَوى
بِهِ الريحُ لَفّاحَةٌ لِلوُجوهِ    ***    بِهِ الشَمسُ نَزّاعَةٌ لِلشَوى
قَصَدتُ الجَزيرَةَ أَبغي النَجاةَ        ***    وَجِسمي شَواهُ اللَظى فَاِشتَوى
فَأَلفَيتُ نادِيَها زاهِراً    ***    وَأَلفَيتُ ثَمَّ نَعيماً ثَوى
فَأَنزَلَني مُنزَلاً طَيِّباً         ***         وَرَوّى فُؤادِيَ حَتّى اِرتَوى
وَأَطفَأَ وارِفُ تِلكَ الظِلالِ    ***    سَعيرَ الهَجيرِ وَحَرَّ الجَوى
فَأَحيَت بِنَفسِيَ ذِكرى الشَبابِ    ***    وَما كانَ مِنها وَمِنهُ اِنطَوى
وَعاوَدَ قَلبِيَ ذاكَ الخُفوقِ    ***    وَقَد كانَ بَعدَ المَشيبِ اِرعَوى

يفهم القارئ لهذه الأبيات لأول وهلة أن حافظ إبراهيم يُحدِّثنا عن منطقة الجزيرة وجمالها، لكنّ في الحقيقة استعمل كلمة (الجزيرة) مُوارِبًا به، فالمعنى القريب هو المكان، والمعنى البعيد هو نادي (الجزيرة) الرياضي، وستؤكد لنا الأبيات القادمة ذلك، فهو يذكر يومًا شديد الحرِّ والتَّعب، جعله يقصد الجزيرة للتَّفَيُّؤ بظلالها والتّنعّمِ بجمال نَسيمها، ثم يَعجَبُ من قومِه كيف لا يفعلون فعله ويتوجّهون إلى تلك الجِنان وارفة الظِّلال؛ فيقول:

فَما بالُ قَومِيَ لا يَأخُذونَ    ***    لِتِلكَ الجِنانِ طَريقاً سَوا
تَراهُم عَلى نَردِهِم عُكَّفاً    ***    يُبادِرُ كُلٌّ إِلى ما غَوى
وَلَو أَنصَفوا الجِسمَ لَاِستَظهَروا    ***    لَهُ بِالمِرانِ وَطيبِ الهَوا

يَعجبُ شاعر النِّيل من أبناء جِيله كيف يهتمّون بألعاب النَّرد والطاولة، ويهملون ألعاب المِران الرّياضيّة التي تنفع أجسامهم وتمتِع أنظارهم، ويرى ذلك إجحافًا منهم بحق أبدانهم وأنفسهم. 

ثمَّ يتوجّه بالخطاب إلى أعضاء فريق (الجزيرة) فيقول لهم:
فَيا نادِياً ضَمَّ أُنسَ النَديمِ    ***    وَلَهوَ الكَريمِ وُقيتَ البِلى
لَياليكَ أُنسٌ جَلاها الصَفا    ***    فَأَسَرَت إِلَيكَ وُفودُ المَلا
وَقَد زانَ لَهوَكَ ثَوبُ الوَقارِ    ***    فَلَهوُكَ في كُلِّ ذَوقٍ حَلا

ما أجملك أيُّها الفريقُ الذي يُؤنس مُحبّيه ويملأ أيامهم ولياليهم صفاء وأنُسًا! 
ما أبدعك أيّها النادي الرياضي الذي يأسر مُتابعيه بالبهجة والسّرور والطّرب!

ثمّ يُخاطِب كُلَّ صاحب همٍّ وغمٍّ، ويدعوه بأسلوب الاستفهام الإنشائي الذي خرج إلى معنى الحضِّ على متابعة هذا الفريق لجلاء الأحزان والتوسيع على النفس الضيّقة، ففي متابعة المباريات لا سأم ولا ملل ولا ضيق ولا همّ، بل تفريج عن النّفس وإمتاع لها، ويُغرق الشاعر أكثر في المعنى ويعدّ ذلك النعيم المطلق على وجه المبالغة الفنية في الشعر؛ إذ يقول:

فَقُل لِلَّذي باتَ تَحتَ العُقودِ    ***    بِحَربٍ عَلى نَفسِهِ مُبتَلى
أَتِلكَ الأَماكِنُ لا تُستَرادُ؟    ***    أَتِلكَ المَناظِرُ لا تُجتَلى؟
أَتَحتَ السَماءِ وَبَدرِ السَماءِ           ***             وَبَينَ الرِياضِ وَبَينَ الخَلا
يُمَلُّ الجُلوسُ وَيَفنى الحَديثُ؟    ***     فَهَذا النَعيمُ وَإِلّا فَلا
مَكانٌ لَعَمرُكَ ما حَلَّ في    ***    نَواحيهِ ذو الحُزنِ إِلّا سَلا

وبعد ذلك يستنكر على قاطني مصر وسُكّانها ألّا يحتشدوا في الملاعب لمشاهدة أداء لاعبي نادي (الجزيرة)؛ إذ لا يمكن أن يتمنّى مُشجّعو كرة القدم شيئًا من لاعبي هذا الفريق ولا يجدوه؛ من مهارة وسرعة وجمال في اللعب؛ فلننظر إلى قوله:

فَما أَنتَ في مِصرَ إِن لَم تَطِر    ***    إِلَيهِ فَتَشهَدَ تِلكَ الحُلى
لَهُ مَلعَبٌ فيهِ ما يَشتَهي    ***    مُحِبُّ الرِياضَةَ مَهما غَلا

ثمّ يتطرّق شاعر النِّيل للحديث عن أداء اللاعبين في إحدى المباريات التي خاضوها في أرض اليونان، فأبدعوا أيّما إبداع، ولعبوا بمهارة عالية، تكاد تشعر وأنت تشاهدهم أنهم في صراع حقيقيّ أشبه بصراع الوحوش في الفلاة أو في حلبات الملاكمة؛ إذ يقول:

وَفي أَرضِ يونانَ شاهَدتُهُ    ***    فَأَيُّ جَمالٍ إِلَيهِ اِنتَهى
صِراعٌ وَعَدوٌ بَعيدُ المَدى    ***    وَوَثبٌ يَكادُ يَنالُ السُها
وَشاهَدتُ عَدّاءَهُم قَد عَدا    ***    ثَلاثينَ ميلاً وَما إِن وَهى
وَقامَت مُلاكَمَةُ اللاعِبينَ    ***    فَأَنسَت تَناطُحَ وَحشِ المَها

ويُنهي بقوله إنّه لو أراد أن يُحيط بلَعِبهم وأدائِهم وصفًا لَعَجِزَ عن ذلك القصيد.

ويختم بقوله إن أداء نادي (الجزيرة) البديع يَعِدُ شعوبنا العربيّة بنهضة رياضيّة قريبة ومميّزة؛ فيقول:

وَلَو رُحتُ أَنعَتُ تِلكَ الضُروبَ    ***    لَضاقَ القَريضُ وَأَعيا بِها
عَلى أَنَّ في أُفقِنا نَهضَةً    ***    سَتَبلُغُ رَغمَ القُعودِ المَدى
وَإِن لَم تَكُن بَلَغَت أَوجَها    ***    كَذا كُلُّ شَيءٍ إِذا ما اِبتَدا

شارك: