المبارزة الافتتاحية يوم بدر ورسائل في عالم الرّياضة

2023-01-26 16:28
صورة أرشيفية لممارسة رياضة المبارزة (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

كانت العرب تعتقدُ أنّ السّيف إذا سُلّ من غمده دون أن يُضرَب به أورث الجبن، وكانت المبارزة بالسّيوف من أحبّ رياضات المسلمين التي يتبارى فيها الشجعان ويتباهون بها، ويمارسونها في المعارك وفي غيرها، ويتبارون فيها تدريبًا فيما بينهم ومجابهةً مع عدوّهم.

وكان للصّحابة -رضوان الله تعالى عنهم أجمعين- مواقف كثيرة مشهورة في المبارزة، ومن أبرز هذه المواقف والمشاهد المبارزة الافتتاحية في معركة بدر.

وقائع المبارزة

يذكر ابن إسحق تفاصيل الواقعة فيقول: "ثمّ خرج عتبة بن ربيعة، وتبعه أخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فَصل من الصّف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتيةٌ من الأنصار ثلاثة، وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث، وأمّهما عفراء، ورجل آخر يقال هو عبد الله بن رواحة، فقالوا: مَن أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمّد، أخرج لنا أكفاءَنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي"، فلما قاموا ودَنَوا منهم قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم، أكفَاء كرام، فبارز عبيدة ــ وكان أسنّ القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز عليّ الوليد بن عتبة، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما عليّ فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبتَ صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما، فحاذاه إلى أصحابه"

رسائل من المبارزة

كانت هذه هي المبارزة الأشهر يوم بدرٍ وفيها قدّم النبيّ صلى الله عليه وسلّم للمبارزة ثلاثة من أحبّ النّاس إليه من عائلته، وهي رسالةٌ بليغةٌ في أنّ القائد الفذّ يقدّم لمواطن التّضحية أقاربه قبل غيرهم ولا يضحّي بالآخرين من أبناء شعبه أو جماعته بينما يعيش أبناؤه وأفراد عائلته في مأمن ورفاهية من العيش.

وفي هذه الواقعة تظهر أيضًا أهميّة المبارزة واحترام المبارزين بعضهم بعضًا، فعلى رغم العداوة واستقبال الموت فقد وصف فريق المشركين خصومهم في المبارزة بأنهم "أكفاءٌ كِرام"، فإن كان هذا الاحترام موجودًا في معركة مبارزة حقيقيّة ومواجهةٍ دامية، فأولى به أن يكون موجودًا في المبارزات الرّياضيّة التي تكون في البطولات المختلفة سواء كان التنافس فيها على الفوز بالكأس أو كانت محض لقاءاتٍ رياضيّة وديّة.

الآية التي نزلت في الحادثة

نزل في هذه المبارزة قول الله تعالى في سورة الحجّ: "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ"

أخرج البخاري في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنّه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرّحمن للخصومة يوم القيامة، وقال قيس بن عباد: وفيهم أنزلت: "هذانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ"، قال: "هم الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة، وعليّ، وعبيدة، أو أبو عبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة".

وأخرج البخاريّ في صحيحه أيضًا عن قيس بن عبادة قال: "سمعتُ أبا ذر يُقسِم قسمًا: إن هذه الآية: "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ"، نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة، ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة"
والآية نزلت في المتبارزين يوم بدر لكنها تشمل كلّ مواجهة بين الحقّ والباطل لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال ابن كثير رحمه الله بعدما نقل أقوال المفسرين في الآية: "وقول مجاهد وعطاء، أن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون، يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيها قصة بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرين يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق، وظهور الباطل، وهذا اختيار ابن جرير، فقد قال: "وأولى الأقوال عندي بالصواب، وأشبهها بتأويل الآية قول من قال: عنى بالخصمين جميع الكفار من أي أصناف الكفر كانوا، وجميع المؤمنين، وإنما قلت أولى بالصواب لأنه تعالى ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه، أحدهما أهل طاعة بالسجود له، والآخر أهل معصية له، قد حق عليه العذاب"

ثمّ يعلّق ابن كثير على خصوص السبب وعموم اللفظ فيقول: " فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ فيما روي عن أبي ذرّ في قوله إنّ ذلك نزل في الذين بارزوا يوم بدر؟ قيل ذلك إن شاء الله كما روي عنه، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب، ثم تكون عامّة في كل ما كان نظير ذلك السبب، وهذه من تلك، وذلك أن الذين تبارزوا إنّما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله، والآخر أهل إيمان وطاعة له، فكلّ كافر في حكم فريق الشّرك منهما في أنّه لأهل الإيمان خصم، وكذلك كلّ مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم".

ونزول هذه الآية في واقعة مبارزة يدل على عظيم الحدث وأهميّة المبارزة التي خلّد الكتاب العزيز موقفًا من مواقفها وواقعةً من أبرز وقائعها.

ولم تكن هذه المبارزة هي الوحيدة التي قام بها الصحب الكرام، ولعلنا نقف مع وقائع جديدة -بإذن الله تعالى- في المقال القادم.

شارك: