الصّحابة رضي الله عنهم وممارسة المصارَعة

2022-09-28 15:22
لقطة أرشيفية من نزال مصارعة (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

في مجتمع الصّحابة الأوّل، كانت المصارعة منتشرةً بوصفها الرّياضة التي تبني البدن، وتزيد القوّة في مجتمعٍ يسعى إلى بناء قوّة أفراده لردّ العدوان عنه، وكانت شرعة الجهاد في سبيل الله تعالى قائمةً على قوّة الأبدان ومصابرة الخصم بقوّته في أثناء النّزال.

وهذا في الأصل امتداد لما كان عليه المجتمع قبل الإسلام، غير أنّ الأمر في الإسلام اختلف من حيث توجيه المقاصد من المصارعة من جهة، ومن حيث توجيه آليّات تنفيذها بعيدًا عن المقامرة عليها، أو التسبب فيها بأذى الخصم إن لم يكن عدوًا في ساحة معركة، من جهةٍ ثانية.

نماذج من ممارسة الصّحابة للمصارعة

في المجمل، كان كثير من الصّحابة يمارسون المصارعة، ومنهم من كان يمارسها في المهرجانات والمناسبات العامّة؛ ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان يمارس المصارعة في سوق عكاظ؛ إذ كان سوق عكاظ مناسبة اقتصادية ثقافية رياضية، وكانت تُعقد فيه مباريات المصارعة، فكان عمر رضي الله عنه ممن يتصدّى لمبارزة المصارعين وكان يصرعهم، ولم يؤثَر أنّ  في مصارعات عكاظ قد صرعه أي أحد.

وبعد ظهور الإسلام، ذكرت بعض الروايات أنه كان في سوق المدينة شابّ قويّ يتحدث الناس عن قوته في المصارعة، وذكروا ذلك أمام عمر، فالتقيا في السوق، وعرض عليه عمر رضي الله عنه أن يصارعه، وجرت بينهما مصارعة حامية، كانت نتيجتها الغلبة لعمر إذ صرعه رضى الله عنه.

وأمّا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقد كان مصارعًا قويًّا، فهو بالإضافة إلى تدريب ولديه الحسن والحسين رضي الله عنهما على المصارعة ليمارساها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقد كان عليّ مشهورًا بممارسة المصارعة، وقد روي عن علي بن أبي ربيعة قال: صارع عليّ رضي الله عنه رجلًا فصرَعه، فقال الرّجل لعليّ: ثبّتك الله يا أمير المؤمنين؛ قال علي: على صدرك.

وكذلك كان معاوية رضي الله عنه مصارعًا قويًّا، يمارس المصارعة، وقد شهد له النبيّ صلى الله عليه وسلّم بذلك، وأمره بممارستها بين يديه

فقد روي عن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصارعه، فقال: "قم يا معاوية، فصارِعْه"؛ فقام معاوية فصارَعَه فصرَعَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما علمتم أنّ معاوية لا يصارع أحدًا إلا صرعَه معاوية".

ومن أشهر المصارعين في الصّحابة أيضًا خالد بن الوليد رضي الله عنه، فلم يكن مصارعًا فحسب، بل كان مدربًا لجنود جيشه من الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين على المصارعة.

فهذه النّماذج ما هي إلّا أمثلة للدّلالة على أنّ المصارعة وممارستها كانت سمةً عامّة في مجتمع الصّحابة رضوان الله تعالى عنهم، فهي من الرّياضات التي كانوا يمارسونها ويتدرّبون ويدرّبون أبناءهم عليها.

المصارعة.. تحرير الصّورة بين المشروع والممنوع

من القواعد المسلَّم بها أنّ الإسلام يقرّ أيّ عملٍ يعودُ على الإنسان منه فائدة على روحه أو بدنه مهما كانت قليلة، ما دامت لم تتسبب بضررٍ أكبر من النّفع المتحصَّل، ولهذا فإنّ الأصل في رياضة المصارعة أنّها من المباحات التي لا يرى الإسلام بها بأسًا، بل إنّ المسلم إن قصد بها التقوّي على الطّاعة والعمل لخدمة الإسلام ومقاصده في الأرض، فإنّها تغدو من الأمور المندوب إليها المأجور فاعلها، أمّا إن كانت محض رياضةٍ فهي من الأمور المباحة؛ إذ إنّها تقوم على إظهار القوة بالتغلّب على الخصم وطرحه على الأرض، والتّحايل في صدّ هجمات الخصم وعدم تمكينه من النَّيل منه، وكل ذلك يتم بمهارةٍ عالية وفن وتحكّم عقليّ لا بالضّرب واللكم؛ فالإسلام إذن يقرّ المصارعة التي تحترم آدميّة الإنسان وتقيم الوزن الحقيقيّ لكرامته والحفاظ على بدنه أيًّا كان الخصم، دون التسبب بأي ضررٍ أو عدوان على الإنسان الذي كرّمه الله تعالى.

أمّا إن كان الأمر على غير ذلك من التوحّش والضرب، فهذا مما لا يقرّه الإسلام ولا يرتضيه لأتباعه؛ وأختم بكلام نفيس من محاضرةٍ ألقاها فضيلة الشّيخ مناع القطّان رحمه الله تعالى، إذ يقول:

"ولكنّ المصارعة التي نشاهدُها الآن مليئة بالوحشيّة والفوضى والخروج على حدود المصارعة المعقولة؛ إذ إن المصارعين في المباريات التي نشاهدها يعمل كلّ واحدٍ منهم إلى اختلاس الفرصة ليضرب من ينازله ضربات غير مشروعة، ويعمل بعضهم على الضّرب المبرح واللّكمات القاتلة، وهذا كلّه خروجٌ عن معنى المصارعة.

"فالإسلام يقرّ المصارعة التي تحتوي على فنّ التغلّب على الخصم والمهارة في الإفلات منه وعدم التورّط في الوحشيّة، وهذا ما يدعو إليه الإسلام؛ لأن الإسلام يحترم آدميّة الإنسان، ويوقّره بحكم أنّه الخليفة الذي خلقه الله تعالى لإعمار هذه الأرض وإصلاحها".

شارك: